بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (325)
[سورة الأنعام:51-53]
(وَأَنذِرۡ بِهِ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحۡشَرُوٓاْ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ لَيۡسَ لَهُم مِّن دُونِهِۦ وَلِيّٞ وَلَا شَفِيعٞ لَّعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ)(51)
أي أَنْذِرْ بالوحي (الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ) وهم أهل الإيمان، فهم الذين يخافون الحشر؛ لأنهم يؤمنون أنه آت لا محالة، فيزدادون بالتخويف والإنذار إيماناً واستقامة وعملاً بالشريعة، بخلاف المشركين، فلا يخافون الحشر، ولا يحسبون له حسابًا، لأنهم لا يصدقون به، فالضمير في (بِهِ) يعود إلى الوحي المفهوم من قوله: إن أتبع إلا ما يوحى إلي.
وجملة (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ) حالية، فالمؤمنون يخافون أن يحشروا إلى ربهم، حالة كونهم يعتقدون أنه لا أحد ينفعهم إلا عملهم، لا أنّ لهم شفعاء ينصرونهم من الله كاعتقاد المشركين، فاعتقاد المسلمين أنّ الأمر كله لله، لا أحدَ يشفع إلا بإذن الله، فمَن أذن الله له بالشفاعة شفعَ، كما قال تعالى: ﴿وَلَا یَشۡفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ٱرۡتَضَىٰ﴾([1])، ﴿وَلَا تَنفَعُ ٱلشَّفَٰعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنۡ أَذِنَ لَهُ﴾([2])، والمؤمنون الَّذِينَ يَخَافُونَ الحشر يرجون أن يكونوا من المتقين، القائمين بأمر الله، الحاصلين على مرضاته، وهو معنى (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) في آخر الآية.
(وَلَا تَطۡرُدِ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥۖ مَا عَلَيۡكَ مِنۡ حِسَابِهِم مِّن شَيۡءٖ وَمَا مِنۡ حِسَابِكَ عَلَيۡهِم مِّن شَيۡءٖ فَتَطۡرُدَهُمۡ فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ)(52)
جملة (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) عطف على قوله (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ)، والخطاب في (وَلَا تَطْرُدِ) للنبي صلى الله عليه وسلم، نزلت هذه الآية حين طلب منه وجهاءُ قريش أن يبعدَ فقراء المسلمين عن مجلسه، أو يجعل للمشركين وقتًا لا يسمح فيه للفقراء، حتى لا يؤذوهم، ووعدوا النبي صلى الله عليه وسلم بإيمانهم إن فعل وطرد الضعفاء من المؤمنين، فهمَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يراعي هذه المصلحة، ويجيبهم إلى ما طلبوا، فأنزل الله عليه (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) ليبين الله بذلك أمرين:
الأول: أن دعوة الإسلام لا تطرد من انضم إليها وكان من أهلها، رجاء أن يلتحق بها آخرون جدد، فمن سبق كان أحق بالإيواء لا بالطرد، وهو مصلحة محققة، لا تُترك لمصلحة محتملة، ونظير هذه الآية معاتبة الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في قوله: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّىٰۤ أَن جَاۤءَهُ ٱلۡأَعۡمَىٰ وَمَا یُدۡرِیكَ لَعَلَّهُ یَزَّكَّىٰۤ أَوۡ یَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكۡرَىٰۤ أَمَّا مَنِ ٱسۡتَغۡنَىٰ فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ وَمَا عَلَیۡكَ أَلَّا یَزَّكَّىٰ وَأَمَّا مَن جَاۤءَكَ یَسۡعَىٰ وَهُوَ یَخۡشَىٰ فَأَنتَ عَنۡهُ تَلَهَّىٰ﴾([3]).
الأمر الثاني: الحرص على إعزاز الإسلام، وأنه الذي يَرْغب الناس فيه، لا أن الإسلام هو الذي يَرْغب في الناس، كما قال تعالى: ﴿یَمُنُّونَ عَلَیۡكَ أَنۡ أَسۡلَمُوا۟ قُل لَّا تَمُنُّوا۟ عَلَیَّ إِسۡلَٰمَكُم بَلِ ٱللَّهُ یَمُنُّ عَلَیۡكُمۡ أَنۡ هَدَىٰكُمۡ لِلۡإِیمَٰنِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِینَ﴾([4]).
جاء في الحديث عن أبي سعيد رضي الله عنه عند مسلم قال: (كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سِتَّةَ نَفَرٍ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: اطْرُدْ هَؤُلَاءِ لَا يَجْتَرِئُونَ عَلَيْنَا، قَالَ وَكُنْتُ أَنَا وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَرَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ، وَبِلَالٌ، وَرَجُلَانِ لَسْتُ أُسَمِّيهِمَا، فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَقَعَ، فَحَدَّثَ نَفْسَهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل: ﴿وَلَا تَطۡرُدِ ٱلَّذِینَ یَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِیِّ یُرِیدُونَ وَجۡهَهُ﴾)([5])، وسمَّت رواياتٌ أخرى في غير مسلمٍ بقيةَ الستة، وهم صهيب وعمار والمقداد وخَبَّاب رضي الله عنهم.
وقد همّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم وقتا وللمشركين وقتا؛ تأليفا لهم، رجاء إسلامهم، فيتقوى بهم الإسلام، وهي مصلحة ظاهرة، لكن الله تبارك وتعالى لم يرد ذلك، ولم يقر النبي صلى الله عليه وسلم على ما همَّ به؛ لأن طلب المشركين قائم على الظلم، والاستقواء على الضعفاء، ومنعهم من حق الجلوس للنبي صلى الله عليه وسلم، وسماع ما هم أقبلوا عليه رغبة فيه، ولذلك قال (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) فذكر الحال التي كانوا عليها، وهي أنهم كانوا يَدْعُونَ رَبَّهُمْ، ويعلنون إيمانهم به، ويتركون الأصنام بالغداة والعشي، فوقتهم كله في عبادة الله ولمرضاته، فكيف يُبعدون استرضاءً للكفرة وهو يخادعون.
فالباء في (بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ) للظرفية بمعنى في، والغداة: أول النهار إلى منتصفه، والْعَشِي: ما بعد ذلك إلى فجر اليوم الثاني، أي أنهم طول الوقت ليس لهم شغل إلا التعلق بالدِّين الجديد ونصرته، وسماع هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وجملة (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) حالية، أي يأتونك حالة كونهم مخلصين لله، يريدونه لا يريدون غيره.
(مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) ليس عليك حساب إيمانهم ولا تبعته، أي: ما داموا يريدون وجه الله فلا تلتفت إلى شيء آخر، فإن كان الضمير في حسابهم للمشركين فالمعنى: ما عليك إلا دعاؤهم، فلست مسؤولًا عن عدم إيمانهم، وإن كان للمؤمنين فالمعنى: لست مسؤولا عن جزاء المؤمنين، وما يؤول إليه الأمر من المصلحة في طردهم، رجاء أن يأتيك غيرهم من كبراء القوم، أو ليس لك أن تبحث عن صدق قلوبهم، إن أوشى بهم أعداؤهم، وقالوا عنهم إنهم لم يأتوا إليك إلا لفقرهم وحاجتهم.
(وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) لا هؤلاء ولا هؤلاء مسؤولون عن جزائك وحسابك، فالله هو العالم بالسرائر، ولا تزر وازرة وزر أخرى، وفعل (فَتَطْرُدَهُمْ) منصوب بالفاء في جواب النهي، وقوله (فَتَكُونَ) معطوفة عليه، وأعيد الفعل (فَتَطْرُدَهُمْ) دون الاكتفاءِ بـ(تكونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) للتذكير بأن طردهم هو من الظلم، ولأنّه يستحسن إعادة العامل مع طول الفاصل.
(وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لِّيَقُولُوٓاْ أَهَٰٓؤُلَآءِ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مِّنۢ بَيۡنِنَآۗ أَلَيۡسَ ٱللَّهُ بِأَعۡلَمَ بِٱلشَّٰكِرِينَ)(53)
الآية تصوّر حال من أضلهم الله وفتنوا، فهم فتنوا لتكون عاقبة أمرهم أن يقولوا عن فقراء المؤمنين استخفافا بهم: أهؤلاء العبيد على حالتهم من الفقر والهيئة الرثة، هم الذين وفقهم الله ومنّ عليهم، واختصهم من بيننا، فأحبهم وقربهم دوننا، ونحن سادة الوادي، هذا حسبَ هواهم غاية البعد، رد الله عليهم بأنه أعلم بالشَّاكرِين وبالجاحدين فيكافِئ كلّ فريق بما يستحق.
فقوله (بِالشَّاكِرِينَ) فيه اكتفاء، أي: وأعلم بالجاحدين أيضاً، يعلم من شكر وآمن فيكافئه ويمن عليه بتوفيقه، ويزيده هدى، ويعلم من عاند وكابر فيخذله، ويَكِله إلى نفسه، فميزان الله لمن يمنّ عليه هو الإيمان، والترقي في صالح الأعمال، وميزانكم أنتم الوجاهات والأموال، فشتان بين الميزان والميزان.
وقوله (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) أي مثل ما فتنا الكفار وابتليناهم هذا الابتلاء العظيم، باحتقارهم للمؤمنين لفقرهم وغنى المشركين، حتى طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم طردهم، فمثل هذا الافتتان فتناهم قبل ذلك في أمر الإيمان، بسبق المؤمنين إليه، لِلين جانبهم، وتخلف المشركين عنه، لعتوهم واستكبارهم، حتى قالوا حسدا: أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا، فالإشارة في (وَكَذَلِكَ) تعود إلى الافتتان المفهوم من السياق، ومثل ذلك الافتتان بالغنى والفقر فتنّاهم بالكفر، وسبْق المؤمنين للإيمان، والضمير في (بَعْضَهُمْ) عائد على المشركين الذين فُتنوا، وقوله: (بِبَعْضٍ) هم المؤمنون الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي، واللام في (لِيَقُولُوا) للعاقبة، أي ابتلاء بعضهم ببعض أدى بهم إلى الحسد، فكانت عاقبة أمرهم أن قالوا هذا القول، أو اللام للتعليل، بمعنى أنّ افتتانهم وخذلانهم كان سبباً لقولهم (أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا) أي قال المشركون مستنكرين ومستبعدين تفضيل المؤمنين عليهم أهؤلاء المؤمنون الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم حسبوا أن الله منّ عليهم بالهداية منفردين بها من بيننا، فالاستفهام في (أَهَؤُلَاءِ) للاستبعاد والتعجب، والإشارة بهؤلاء تعود على المؤمنين، استعملوا الإشارة إليهم بدل تسميتهم يريدون تحقيرهم، كما في قولهم: ﴿أَهَٰذَا ٱلَّذِی بَعَثَ ٱللَّهُ رَسُولًا﴾([6])، و(مِن) في (مِنْ بَيْنِنَا) ابتدائية، والجار والمجرور (مِنْ بَيْنِنَا) في موضع الحال، حالة كونهم منفردين (مِنْ بَيْنِنَا).
رَوى البُخَارِيُّ: أَنَّ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ رضي الله عنه، جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّمَا بَايَعَكَ سُرَّاقُ الْحَجِيجِ مِنْ أَسْلَمَ وَغِفَارٍ وَمُزَيْنَةَ وَجُهَيْنَةَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَتْ أَسْلَمُ وَغِفَارٌ وَمُزَيْنَةُ وَجُهَيْنَةُ خَيْرًا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ وَبَنِي عَامِرٍ وَأَسَدٍ وَغَطَفَانَ، أَخَابُوا وَخَسِرُوا [أَيْ: أَخَابَ بَنُو تَمِيمٍ وَمَنْ عُطِفَ عَلَيْهِمْ] فَقَالَ: نعم، قَالَ: فوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُمْ لِخَيْرٌ مِنْهُمْ)([7]).
[1]) الأنبياء: 28.
[2]) سبأ: 23.
[3]) عبس: 1، 10.
[4]) الحجرات: 17.
[5]) مسلم: 6320.
[6]) الفرقان: 41.
[7]) البخاري: 3254.