بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (153).
(رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَٰئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ)[آل عمران:8-10].
(رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) جملة الدعاء هذه يصحّ أن تكون استئنافًا، فتكون من دعاء المؤمنين، ويصحّ أن تكون من كلام الراسخين في العلم، وهو دعاء علمه الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأول ما فيه من التعليم: الأدبُ في الدعاء، والتضرع إلى الله الكريم باسم الرب (رَبَّنَا)، فعلمهم أن يفضُوا بحاجتهم إلى ربهم، يخاطبونه باسم ربوبيته، المقتضية للرعاية والعناية، والحفظ والكفاية، ولا يحتاجون في ذلك معه إلى واسطة ولا وسيلة، كما قال مالك رحمه الله، ودعاء الأنبياء في القرآن (ربَّنا) يشيرُ إلى مثل هذه الآية، كقول إبراهيم عليه السلام: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ)() (رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ)()، وقول آدم عليه السلام: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا)().
ومعنى لا تزغ قلوبنا: لا تبتلنا بفتنٍ تضلنَا، تكونُ سببًا في تغير قلوبِنا، وميلها عن الحقّ، بعد أنْ هديتنا إليه؛ لأنّ أخوفَ ما يخافُ العقلاءُ هو الخذلان، وتخلّي عناية الله عنهم، وحرمانُهم التوفيقَ، فتنتكسُ أحوالهُم، وتتغير قلوبُهم، وتتحولُ من العرفانِ إلى الجهالةِ، ومن الشكرِ إلى الجحودِ، ومن اليقينِ إلى الشكِّ، ومن الطاعةِ إلى العصيانِ، قال صلّى اللهُ عليهِ وسلم: (إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ، يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ)() قال تعالى: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ)()، ومِن دعاءِ النبي صلى الله عليه وسلم: (يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ)() (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) بعد منصوب على الظرفية، والعامل فيه تُزغ، و(إِذْ) مضاف إليه، ظرف زمان بمعنى الماضي، مفيد للتعليل، ويؤوّل بمصدرٍ تقديرُه: لا تزغْ قلوبَنا بعد هدايتِك إيانا، كما هي في قوله تعالى: (وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ)() أي: لن ينفعَكم شيءٌ لظلمِكم (وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً) طلبٌ للهبةِ مِن الله، والهبةُ ما يُعطَى بلا عوضٍ، و(لَدُنْكَ) لدى: ظرفٌ مثلُ عندَ، إلا أنّه أخصُّ مِن عند؛ لأنه يستعملُ للوقتِ الحاضرِ مع المخاطَب، وهذا الدعاء بطلبِ الرحمة هو أثرُ الدعاءِ المتقدم، بحفظِ القلوبِ مِن الزيغِ وثباتها؛ فإنّ أثرَ ثباتها نزولُ الرحمة، والرحمةُ المغفرةُ والرضوان وقبول العمل، وهي إذا كانت مِن عندِ مَن يملكُها، فإنه لا يُحتاجُ معه إلى غيره (إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) المعطِي لكل مطلوب، والجملةُ مؤكدة بإنّ، والإسميةِ، وقصرِ الخبر على المبتدأ؛ لتدل على أن عطاءه هو العطاء، وعطاء غيره مع عطائِه ليسَ بشيءٍ، فهو قصر إضافي.
(رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ) والرحمة المرجوة بالدعاء إنما هي لأجلِ اليومِ الموعود، لجمعِ الناس فيه للحسابِ، وهو آتٍ لا شكّ فيه، فلامُ (لِيَومٍ) للتعليل() (إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) الميعاد: مصدرٌ بمعنى الوعد، والجملةُ في موضعِ التعليل، وأفادتِ التأكيدَ لما أفادته الجملةُ قبلها، مِن جمع الناسِ للحساب، أي: إنّ جمعَ الناس للحسابَِ آتٍ؛ لأنّ اللهَ قد وعدَ، ووعدُه لا يتخلّف.
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) من المشركين ويهود المدينة ونصارى نجران، وغيرهم من أهل الكتاب (لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم) لنْ يفيدَهم ولن يدفعَ عنهم السوءَ شيءٌ مِن أموالهم ولا أولادِهم، والأموالُ: جمع مال، والمراد به عمومُ ما يقتَنى من المكاسبِ والأعواضِ، التي يسدُّ الناسُ بها حاجاتِهم، وأحيانًا يطلقُ المالُ عند العرب على نوعٍ منها؛ كالإبل، أو النقودِ والدراهم، أو الجناتِ والحيطان، أو غير ذلك (مِنَ اللهِ) مِن: يصح أن تكون للابتداءِ، على معنى: لن تغنيَ عنهم أموالهم عذابًا يأتيهم مِن عندِ الله، ويصحُّ أنْ تكونَ للبدل والعوض، داخلة على مضافٍ محذوفٍ، على معنى: لن تغنيَ عنهم عوضًا يعوضُهم عن رحمةِ الله (شَيْئًا) مفعولٌ مطلق، لن تغني عنهم شيئًا من الغناءِ، مهما كان ضئيلًا، فالتنكير فيه للتحقير، أي: فمهما كان الغناءُ قليلا لا فائدةَ منه، فلن يجدوهُ، لن يجدوا نصيرًا ينصرُهم مِن الله، ولا راعيًا يرعاهُم، ولا دافعًا يدفعُ عنهم شيئًا مِن عذاب الله، وذكر تخلي الأموال والأولاد عن نصرتهمْ وقتَ اللهفةِ والحاجةِ إلى النصرة؛ لأنّ المكروبَ عند نزول البلاءِ يفزعُ أولَ ما يفزعُ إلى مالهِ وولده، فإذا انتفَى نفعُها فلم يجدْهما، انتفَى عنه نفعُ ما سواهُما، مِن الحليف والصديقِ ونحوهما، بالأَوْلى (وَأُولَٰئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) عطف هذا العذاب على ما قبله مِن الوعيد لاختلافهِ عنه، فالعذابُ الأولُ الذي لا تغني عنه الأموالُ والأولاد شيئًا يعمُّ بأس الدنيا والآخرة، وهذا خاصٌّ بعذابِ الآخرة، والوَقود بالفتح: ما يوضعُ في النار لاستمرارِ اشتعالها ولهيبها، وجيءَ بالإشارة في خطابِهم بـ(أُوْلَئِكَ) تخويفًا لهم، وتهويلًا لأمرهم، حتى كأنهم مشارٌ إليهم حاضرون، وليقعَ الخبرُ عليهم بعدَ ذلك - بأنهم أصحابُ النار وحطبُها - موقعَه مِن التخويفِ والإحباطِ.