بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (169).
(إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِن بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)[آل عمران:62-67].
(إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ) القصصُ مِن قَصّ يَقصُّ قصًّا وقصصًا: ما يخبر به مِن خبرٍ مطولٍ مشتملٍ على تفاصيلَ وتفاريعَ، وهو هنا: ما أخبرَ به القرآنُ عن عيسى وأمه، وأنه مخلوقٌ لله، كما خلق آدم، وليس كما يسميه الكفرة مِن أهلِ الكتابِ ابنَ اللهِ، فهذا هو القصص الحق في خبره، لا غيره مِن الأخبارِ الباطلةِ( ) (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ) نفت الآية جنسَ وجودِ الإلهِ الحق عن غيرِ الله( ) (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فاللهُ الإلهُ الحقّ، مِن صفاتهِ العزةُ المطلقةُ فلا يغلبُه غالبٌ، والحكمةُ البالغةُ فلا يَعجزُ عن تدبيرٍ، فما زعمه اليهودُ إلاهًا وهو عيسى ثم صلبوه، غاية في السخف؛ كيف يصلح أن يكون إلهًا مَن أوصافُه كلها عجزٌ ومذلةٌ، مغلوبٌ مقهورٌ مصلوب؟!
(فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) عطفٌ على دعوتهم للمباهلة في قوله: (تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ) أي: فإنْ تولّوا وامتنَعُوا عن المباهلةِ خوفًا مِن أن تقعَ اللعنةُ عليهم، ويصيبَهم العذابُ، فذلك اعترافٌ منهم بصدقِ نُبوة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، لخوفهم من دعائه عليهم إذا خرجوا للمباهلةِ، وأنهم بكفرهم ليسُوا إلّا أصحابَ عنادٍ ومكابرةٍ، اللهُ عالم بفسادِهم، فلا ينصلح لهم عمل؛ لأنّ الله لا يصلحُ عمل المفسدين.
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) الخطاب بـ(قُلْ) للنبي صلى الله عليه وسلم، والنداء (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ) لليهودِ والنصارَى، ويدخلُ فيهم نصارى نجران دخولًا أوليًّا؛ لأن السورة نزلتْ فيهم، والجملةُ تأكيدٌ واستمرارٌ لما تقدَّم في محاجتِهم؛ حِرصًا على تصحيحِ إيمانِهم، وعدمِ اليأسِ منهم (إِلَى كَلِمَةٍ) الكلمة تطلقُ على الكلمةِ الواحدةِ وعلى الجملةِ من الكلامِ، كما في قوله: (كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا)( )، والكلمة السواء هي المذكورةُ فيما بعد: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا... وما بعده( )، والسواء: أصله الوسطُ والعدلُ، ومنه قوله تعالى: (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ)( ) أي في وسطهِ، والضمير في (بَيْنَنَا) للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمسلمين، والمعنى: يا أهل الكتابِ؛ تعالوا إلى كلمة يستوي أهل العقول والفطر السليمة في الاتفاقِ عليها، وهي كلمةُ التوحيدِ، التي لم تختلفْ عليها الرسل والأنبياء وأتباعهم، ولا كتبُ السماءِ جميعًا، وهي أنْ ننزه الله عن الشريكِ في العبادةِ (وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ) ولا يجعل كل فريق منّا من أنفسهم أربابًا يحللونَ ويحرمونَ، فلا نقولُ كما تقولون: عزير ابنُ الله، والمسيح ابنُ الله، ولا نتخذ الأحبار بمنزلة الآلهة يحللونَ ويحرمونَ؛ لأنّ الذي يحللُ ويحرمُ هو الله وحده، فإذا جعلناهم يحللونَ ويحرمونَ فقد اتخذناهم أربابًا مِن دونِ الله (فَإِنْ تَوَلَّوْا) وأعرضُوا عن هذا النداء، وأبَوا أن يأتوا إلى كلمةٍ سواء؛ كلمة التوحيد والعدل (فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) فتبرؤوا أيها المسلمونَ من كفرهم على رؤوسِ الأشهادِ، وقولوا لهم ولغيرهم: اشهدوا بأننا على الإسلامِ والتوحيدِ، متبرئين مِن كل شِرك، وهذا للتسجيلِ عليهم؛ لأنهم إذا شهدوا للمسلمين بالإسلامِ، فقد اعترفوا على أنفسِهم بالكفرِ.
(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِن بَعْدِهِ) نداءٌ آخر موجهٌ لأهل الكتاب من اليهودِ والنصارَى، قل لهم يا محمد: لِمَ تجادلون في أمرِ إبراهيم عليه السلام؟ خوطِبوا بهذا الاستفهام الإنكاريّ؛ لأن كلّا منهم يدّعي أنه متوافقٌ مع إبراهيم، وأنه على دينه، فالنصارى تقول: إن إبراهيم على دين النصارى، واليهود تقول: إنه على دين اليهود، وهذا منهم يدخلُ فيما لا يُعقل؛ فكيف يكون إبراهيمُ يهوديًّا أو نصرانيًّا؟ واليهودية دينُها التوراة، والنصرانية دينها الإنجيلُ، وما أنزلت التوراة والإنجيل إلّا مِن بعد إبراهيم بقرونٍ، فهل يعقلُ أن يعتنقَ التوراة مَن ماتَ قبل نزولها بألفِ عام؟! وكيف يعتنق الإنجيلَ مَن ماتَ قبل نزوله بألفي عام؟! (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) هل لكم عقول حين تقولون هذا القول المحال وقوعه؟ لا يقول هذا عاقل.
(هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ)( ) التقدير: ها أنتم هؤلاء الحمقى، وهذا التقدير في وصفهم بالحمقى، دعا إليه الإخبار باسم الإشارةِ هؤلاء؛ ليصحّ به الإخبار عن الضمير في ها باسم؛ لأنه بدون هذا التقدير لا تحصل الفائدة؛ إذ لا فائدة من قولك: أنتم هؤلاءِ، ولا أنت هذا (حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) الجملة مؤكدة ومبينة لحماقتهم، ها أنتم أيها الحمقى جادلتم وكابرتم فيما جاءكم به علم في التوراة، عن عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وحرفتم ما شئتم أن تحرّفوا، وتكلمتم بالباطل عنهما (فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) استفهام إنكاري، إنْ قُبل على سبيل التنزلِ جدالكم فيما جاءكم به علمٌ وحرفتموهُ، فلِمَ تجادلونَ في إبراهيم، وتزعمون أنه على دينكم المحرفِ، ولم يكنْ لكم به علمٌ، ولم يأتكم خبرُهُ في كتبكم (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) الله يعلم ما ذكره عن إبراهيم في القرآن، وأنتم تتكلمون عنه عن غير علم؛ إذ لم يأتِ لذكره في كتابكم خبرٌ (مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا) تصريحٌ وتقريرٌ، لمّا تقدم إقامة البرهانِ عليهم في تكذيبِ دعواهم بأنهم متوافقون في دينهم مع ملة إبراهيم، فنفى القرآن أن يكونَ إبراهيم يهوديًّا أو نصرانيًّا، ولكنهُ (كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) والحنيف مِن الحنف: وهو الميل، أي كان مائلاً إلى الحق، تاركًا للباطل، وسُميتْ ملتُهُ ملة الإسلام بالحنيفيةِ لاستقامتِها، وقد تقدمَ الكلام على الحنيفية في البقرةِ، في قوله تعالى: (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)( ) فإبراهيمُ عليه الصلاة والسلام كان مُسلمًا مُنقادًا موحدًا لربهِ، وما كانَ مِن المشركينَ أهلِ الأوثانِ، ولا مِن اليهودِ والنصارى القائلينَ بأنَّ المسيحَ ابن الله، وعزيرًا ابن الله.