المنتخب من صحيح التفسير -الحلقة 201- تابع سورة آل عمران

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 الحلقة (201)

(قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَّوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذَٰلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)[آل عمران:154-156].

 (قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ) لَبَرَزَ: لخرجَ، واشتقاقه مِن البَراز وهو الفضاء، يخرج إليه لحاجة ونحوها (إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ) جمع مضجع، اسم مكان، أصله: الموضع الذي يوضع فيه الجَنْبُ للراحة، وهي المصارعُ التي تأتيهم آجالهم فيها، والمعنى أن الأمر كله لله، فلن ينجيَكم تدبيرُكم وجعلُ الأمرِ لكم مما قدرَه الله عليكم مِن الموت، فلو بقيتم في بيوتِكم ولم تخرجُوا منها أصلًا، وكُتب عليكم أن تُقتَلوا في هذا الموضع أو ذاك، لخرجَ الذين حضرَ أجلُهم إلى مصارعِهم ومواضعِ قتلِهم، ليموتُوا فيها؛ لأن الله كتب عليهم أن يموتوا بها، وليس في هذا دعوةٌ إلى تركِ الأسبابِ، والاتكالِ على القدر، بل الأخذُ بالأسباب واجبٌ مأمورٌ به، لا يحلُّ تركُ الأخذ به والاحتجاجُ بالقدر؛ لأنّ القدرَ غيبٌ لا نعلمه، والأسباب مأمور بها، ونحن مطالَبون بما علِمناه، وأمرنا به، وتركُ المأمور معصيةٌ، لكن هذا القول: (لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ) جاءَ بعد الوقوعِ، وانكشاف الأمر ممن فرط في أسبابِ النصر، واحتجَّ بـ(لَو) التي تفتح عمل الشيطان؛ فجاء ردًّا على قولهم: لو أطاعونا ما قُتلوا، فالمطلوبُ من المؤمن ابتداءً أن يبذلَ جهدَه ولا يفرط، فإذا عجزَ ولم يوفقْ استسلمَ لحكم الله بعد وقوعهِ ورضي بقضائه، فأُجر مرتين: مرةً لسعيه، ومرةً لرضاه وإيمانه (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ) الابتلاء: الامتحان والاختبار، الذي يظهر معه ما في السرائر مِن الصدق، والتمحيص، والتنقية، والتخليص، والمعنى: فعل الله بكم ما فعل من الابتلاء لتظهر حقيقة ما في الصدور، وينكشف ما تنطوي عليه القلوب مِن المستور، ويظهر ما خفي مِن نفاقِ المنافقين، وصدق الإيمان من المؤمنين (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) إنما يختبركم ليكشفَ أمركم، ويقيمَ عليكم الحجةَ، لا لخفاءِ حالكُم عليه، فهو عليمٌ بذات الصدور، يستوي عنده السر والجهر.

 (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ) تَوَلَّوْا: رجعوا مولين الأدبار فارّين من المعركة، و(مِنْكُمْ) أي من جيش المؤمنين (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ) يوم أُحد، و(اسْتَزَلَّهُمُ) مِن زلل الأقدام، خلاف ثباتِها، والسينُ والتاء فيه للتأكيدِ لا الطلب، كما في استَغْنى، واستَدْبَر، واستَكبر، أي: أوقعهم الشيطان في الخطيئةِ حين تولّوا وتفرقُوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يلوونَ على أحدٍ (بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا) الباء للسببية، ما أصابَهم من التولي والوقوعِ في الخطيئة، كان بسبب ما صنعوه وكسبته أيديهم، وما ظلمَهم اللهُ ولكن كانوا أنفسَهم يظلمون، وكان ذلك الجزاءُ ببعضِ كسبِهم لا كلِّه، فكأنهم كانوا يستحقونَ أكثر منه، ممّا عفا الله تعالى عنه، كما قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ)([1])، ومن الكسب الذي أُخذوا  به تركُ أماكنهم، وعصيانُ أمرِ النبي صلى الله عليه وسلم.

وبيانُ الأسباب لما أصابَهم يوم أحدٍ فيه ردٌّ على المنافقين؛ فإنهم خلطُوا الأمور، حيث تجاهلوا الأسبابَ التي صنعوها بأيديهم، وتمسكوا بالآثارِ المترتبة عليها، وهي ما وقعوا فيه مِن الغمِّ والقتلِ (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) عفا الله عن خطيئتهم لتوبتهم ورجوعهم؛ لأنه غفور حليم، لا يسدُّ بابَ التوبةِ عمَّن رجعَ إليه.

 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ) لجماعتهم من المنافقين، وأنسابهم ومعارفهم، واللام للتعليل، أي: قالوا هذا القولَ لأجلِ إخوانِهم وفي حقِّهم، مخافةً عليهم، قالوا ذلك تلهفًا على مَن ماتوا؛ ليثبطوا الباقين عن الضرب في الأرضِ والغزوِ (إذا ضَرَبُوا) إذا بمعنى إذ؛ لدخولها على الماضي، وجيء بـ(إذا) لأنّ المراد حكايةُ ما وقعَ منهم حين (ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ) والضربُ في الأرض: السير فيها؛ لأن مَن يسير يضربُ الأرضَ برجله، والمقصودُ السفرُ لتجارة ونحوها (أَوْ كَانُوا غُزًّى) خرجُوا للغزو في سبيل الله، جمع غازٍ، كشاهدٍ وشُهَّد وعافٍ وعُفّى (لَوْ كانُوا عِنْدَنا) قالوا لأجل إخوانهم هذا القول؛ لو بقوا عندَنَا، وسمعُوا كلامنا، ولم يخرجُوا، وأخذوا بالحزمِ، ما ماتوا (لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) اللام للعاقبة، كما في قوله تعالى: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا)([2])،  فهم قالوا هذا القولَ لأجلِ إخوانهم مِن المنافقين متلهِّفين عليهم؛ لو كانوا عندَنا تحتَ سلطانِنا، والأمرُ فيهم أمرُنا، وأخذُوا بالحزمِ، وبقوا بالمدينة، ولم يخرجُوا للقتال، ما ماتوا وما قتلوا؛ لتكونَ عاقبة أمرهم بسبب (ذلِكَ) التلهُّف والنّدم، والقول البعيد عن الصواب، المتغافل عن الأقدار (حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) لوعةً وأسفًا يعصرُ قلوبَهم، تتجددُ حرقتُه ولوعتُه مع الأيام، فلا تخمدُ ولا تنقطعُ؛ لعدمِ الرضا والتسليم، ودلَّ الظرفُ (فِي قُلُوبِهِمْ) على تمكنِ الحسرةِ مِن قلوبِهم، ولزومِها لهم، تمكُّنَ المظروفِ في الظرفِ (وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) لو علمُوا أن الفاعلَ الحقيقيّ للحياة والموتِ هو الله، واستسلموا له إيمانًا وقدرًا، لارتاحتْ قلوبُهم، ولعلِموا أنّ جُبنهم وقعودَهم لن يزيدَ في أعمارِهم لحظةً، وخروجهم للقتال لن ينقصَ من أعمارهم شيئًا، كما قال القائل:

تأخرتُ أستبقِي الحياةَ فلمْ أجِدْ        لنفسِي حياةً مثلَ أنْ أتقَدَّما

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) تذييل فيه تهديدٌ ووعيدٌ؛ لأنّ إخبارَ الله بأنه يرَى عباده، يتضمنُ الوعيدَ بمجازاتَهم على ما يراهُ منهم، وكذلك إخبارُه بعلمِه بهم.

 

[1]) الشورى: 30.

[2]) القصص: 8.

التبويبات الأساسية