المنتخب من التفسير -الحلقة 295 - سورة المائدة

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 الحلقة (295)

[سورة المائدة: 57-60]

(يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَكُم هُزُوٗا وَلَعِبٗا مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلكِتَٰبَ مِن قَبلِكُم وَٱلكُفَّارَ أَوۡلِيَآءَۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤمِنِينَ)(57)

هذا النداءُ للمؤمنين زيادةٌ في النهي عن موالاة أعداء الله؛ لما لها من الخطر العظيم في الدين، والضرر البالغ بجماعةِ المسلمين، نهاهم أن يتولوا من اتخذوا دين المسلمين هزؤًا (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) وهم اليهود والنصارى، وإن كان الذين أوتوا الكتاب وقتَ نزول الآية هم اليهود خاصة، لأن النصارى لم يكونوا بالمدينة، لكن اللفظ يشملُهم، والعبرة بعموم اللفظ (وَالْكُفَّارَ) قرئت بالنصب والجر؛ فعلى قراءة النصب عطف على (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ) وعلى قراءة الجر عطف على (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) والمعنى واحدٌ، والمراد من قوله (وَالْكُفَّارَ) هم مَن مردُوا على النفاق مِن غير أهل الكتاب، واندسُّوا بين المسلمين (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فامتثِلوا، والغرض تحريكُ داعي الإيمان في قلوبهم؛ لأن مقتضى الإيمانِ أن يوالوا المؤمنينَ لا غيرهم، فهو شرطٌ ليس له مفهوم، فلا يدلُّ على أنهم إنْ خالفُوا خرجوا عن الإيمان، بل التقوَى وترك موالاة الكافرين هو مقتضى الإيمان.

(وَإِذَا نَادَيتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ ٱتَّخَذُوهَا هُزُوٗا وَلَعِبٗاۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَعقِلُونَ)(58)

(وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا) النداء إلى الصلاة هو الأذان؛ لأن المؤذن ينادي: حي على الصلاة حي على الفلاح، وقد شُرع الأذان في أول الهجرة بالسُّنة، في حديث عبد الله بن زيد، وكان اليهود والمشركون يستهزؤون من الأذان، قيل: الآية نزلت في اثنين منهم: رِفاعة بن زيد، وسويد بن الحارث، كانَا من المستهزئين بالمسلمين ودينهم، فنُهوا عن موالاتهم، وقيل: نزلت في جماعة من اليهود والمشركين، كانوا يستهزؤون بالمسلمين إذا سجدوا، ويستهزؤون بهم إذا سمعوا الآذان، ويتضاحكون([1]) (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ) لا يفعل هذا مَن كان له عقلٌ، ينهاه عن سفاسف الأمور، حتى لو كان من غير المسلمين، فذلك الاستهزاء بالأذان وشعائر الإسلام هو مِن فعلِ الحمقَى والسفهاء.

 

(قُل يَٰٓأَهلَ ٱلكِتَٰبِ هَل تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلَّآ أَنۡ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَينَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبلُ وَأَنَّ أَكثَرَكُم فَٰسِقُونَ)(59)

قال ابنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: “أَتَى نَفَرٌ مِنَ اليهود إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلُوهُ عَمَّنْ يُؤْمِنُ بِهِ مِنَ الرُّسُلِ، فَقَالَ: أُومِنُ {بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}، فَلَمَّا ذَكَرَ عِيسَى جَحَدُوا نُبُوَّتَهُ، وَقَالُوا: وَاللهِ مَا نَعْلَمُ أَهْلَ دِينٍ أَقَلَّ حَظًّا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْكُمْ، وَلَا دِينًا شَرًّا مِنْ دِينِكُمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَاسِقُونَ}”([2]).

فتنقِمون في قوله (هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا) من نقِم يَنقِم، ويجوز فتح القاف، من باب علِم، وتعدَّت نَقمَ بمِن وهي مما يتعدّى بعلى؛ لتضمنها معنى الإصابة بالمكروه، والنقمة: الإنكار والعقوبة، ومِن في قوله: (مِنَّا) ابتدائية، أي: هل تنكرون وتنقمون عن شيءٍ صدر منَّا، إلَّا أن يكونَ على إيماننا بالله ورسله، فالاستفهام إنكاري فيه معنى التعجبِ من حالهم، حيث أنكروا ما ليس بمنكر، وما كلُّه محاسن يستحقُّ المدح والثناء لا الذم والإنكار، وقوله (وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا) هو القرآن (وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ) جميع الكتب السماوية، وإذا كان الإيمان بالله وما أنزل إليهم هم أنفسهم يقولون به، فعجبٌ أن ينكروه على غيرهم، ثم إنه إذا كان ما أنزل إليهم ارتضوه ولم ينكروه على أنفسهم، فإنكارهم ما أنزل على غيرهم يستحقُّ الإنكار، إذ ليس له مِن أساس إلا الحسد، فهذا وجه الإنكار والتعجب في الاستفهام، والمستثنى منه في قوله (إِلَّا أَنْ آمَنَّا) هو المنقوم، المنفية أنواعه عن المؤمنين بالاستفهام الإنكاري، فهو في معنى: يا أهل الكتاب لا تنقمون منا شيئًا، والمستثنى أثبت لهم نوعًا من النقمة، حصره في اجتماع أمرين معًا؛ إيمان المؤمنين وفسق اليهود، أي: فليس لكم يا أهل الكتاب من نقمة علينا تجدونها، إلا مخالفتنا لكم في الإيمان، آمنا وكفرتم أنتم بفسقِكم، فآل الأمر إلى أن أهل الكتَاب جعلوا الإيمان هو محلّ الإنكار، وعدم الإيمان منهم هو محلّ الرضا، وهذا غاية العجب، واستعمل في الإنكار عليهم أسلوب الاستثناء، على طريقة تأكيدِ الشيء بضده؛ لأن ما ذكر بعد الاستثناء جاء مدحًا وثناء للمؤمنين، وكان على الأصل في الاستثناء أن يكونَ من أوصاف الذم التي ينقمونها على المؤمنين، فهو من تأكيدِ المدحِ بما يشبه الذم.

(قُل هَل أُنَبِّئُكُم بِشَرّٖ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللّهِ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيهِ وَجَعَلَ مِنهُمُ ٱلقِرَدَةَ وَٱلخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّٰغُوتَ أُوْلَٰٓئِكَ شَرّٞ مَّكَانٗا وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ)(60)

قوله (بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ) أفعل تفضيل بمعنى أشَرّ، وهو على غير بابه، معناه اتصاف اليهود بشرٍّ عظيم، دون مشاركة غيرهم فيه، واسم الإشارة (ذَلِكَ) يشار به إلى الواحدِ وغيره من المذكور، والمشار إليه هنا ما نقمُوا به على المؤمنين، من الإيمان بعيسى وجميعِ الأنبياء عليهم السلام، وحسبوه شرًّا بزعمهم، فقيل لهم: إن الشر هو ما أنتم عليه، وهو كفركم بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، و(مَثُوبَةً) منصوب على التمييز من قوله: (بِشَرٍّ) من ثاب بمعنى رجع، أي رجعتم بالشر كلّ الشر، وأصل المثوبة الرجوع بالثواب والجزاء بالخير، ضد العقوبة، فإنها تكون في الجزاء بالشر، واستعملت المثوبة هنا في ضدها وهو الشر، من بابِ التهكم، على حد قول القائل: تحيةُ بينِهم ضربٌ وجيعٌ، والمعنى: قل لأهل الكتاب: هل أنبئكم بشر من حال هؤلاء الذين نقمتم عليهم، وهم المؤمنون، فالمتصف بالشر ليس دين المؤمنين، وإنما مَن لعنه الله، فالشر ليس ما زعمتم أنه شر، ونقمتمُوه على المؤمنين، من إيمانهم بعيسى وبجميع الأنبياء عليهم السلام، بل الشر كلُّ الشر ما ترجعون وتبوؤون بِه، ويحل بكم من عذاب الله، ومَن في قوله (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) خبر لمبتدأ محذوف، أي: دين مَن لعنه الله، ومَن لعنَه الله هم اليهود، ولعنهم طردهم من رحمته، والجملة بيانٌ لما قبلها، تبين أنّ الشرَّ على الحقيقة هو دينُ مَن لعنه الله، وليس المنقوم عليهم، وغضبُ اللهِ عليهم تعرضهم لانتقامه، وقوله (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ) أي مسخهم قردة، وهم أصحاب السبت في زمن نَبيِّ الله دَاوُدَ عليه السلام (وَالْخَنَازِيرَ) قيل مسخ منهم خنازير، وهم أيضًا من يهود أصحاب السبت، وقيل: الذين مُسخوا خنازير هم النصارى، ممن امتحنوا بالمائدة التي نزلت على عيسى عليه السلام، وعَبَدَ في قوله (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) فعل ماضٍ معطوف على (لَعَنَهُ اللهُ) وما بعده، وفاعل عبَدَ يعود على مَن، أي: مَن لعنه اللهُ هم من عبدَ الطاغوت، والطاغوت: الشيطانُ والأصنام، وكلُّ ما يُعبد مِن دون الله، فقد عبد بنو إسرائيل العجل، وأطاعوا الكهنة (أُولَئِكَ) الذين اتصفوا بهذه الأوصاف (شَرٌّ مَكَانًا) شرٌّ أفعل تفضيل، مقصود منه الزيادةُ فيما اتصفوا به من الشر، لا مشاركة غيرهم لهم في الشر، ومكانًا منصوب على التمييز، وإسناد الشر إلى المكان مبالغة في اتصاف أهل المكان بالشر، حتى كأن الشرَّ تجسدَ وصار مكانًا لهم، أي هم اليهود بمنزلة عظيمةٍ ومكانٍ بعيدٍ من الشر (وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) هو أيضًا أفعل تفضيل مِن الضلال، على غير بابهِ كسابِقِه، يدلُّ على زيادة اتصافهم بالضلال، والضلالُ: عدم الاهتداءِ والتبين لطريق الحق، وسواء السبيل: وسطُها واعتدالها، فهم أبعد ما يكونون عن طريق الاعتدال، الذي يوصلُهم إلى الحق، دونَ غلو ولا تفريط.

[1]) ينظر أسباب النزول للواحدي: 1/200.

[2]) أسباب النزول للواحدي: 1/202.

التبويبات الأساسية