بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (197)
(وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ)[آل عمران:145].
(وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) نَفْسٍ نكرةٌ في سياق النفي، تعمّ كل نفس، بما في ذلك نفسُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وكأنّ الآيةَ تلوم المسلمين الذين صدَّقوا أن رسول الله قُتل يومَ أحد، فهم يعلمون وعدَ الله له بالحفظِ حتى يبلغَ رسالة ربه، قال تعالى: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)([1])، (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)([2])، ولن تموت نفسٌ إلا بإذن الله، وما دامتِ الرسالةُ لم تكتمل؛ فكيف راجَ عليكم ما أشاعه أعداؤه عنه بأنه قُتل! ولذلك عندما اكتملت الشريعةُ، ونزلَ قول الله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)([3]) بكَى أبو بكر؛ لأنه فهم منها قربَ أجلِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وقال: “ما اكتملَ شيءٌ إلا نقصَ”([4])، كما أن في الآية لومًا على الذين انكفؤوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانفضّوا عنه لمّا كثر فيهم الموت؛ فما كان لكم أن تنفضوا عنه، فلن تموت نفس إلا بأجلها، واللومُ موجّهٌ لمن انكفؤُوا وانفضّوا عنهُ، وإلّا فقد قالَ أنس بنُ النضر في هذا الموقفِ يناديهم: “إنْ كانَ ماتَ فما تصنعونَ بالحياةِ بعدَه”.
وقوله (كِتَابًا مُؤَجَّلًا) مصدرٌ مؤكدٌ لعامله المقدر، أي كتب ذلك الأجلُ المقدر كتابًا مؤجلا، ووصفُ المصدر (كِتَابًا) بكونه مؤجلًا، لا يخرجه عن أن يكون مؤكدًا لعامله؛ لأن التأجيل معلومٌ مما قبله في قوله: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) ومعنى مُؤَجَّلًا: مكتوبًا مؤقتًا بوقتٍ محددٍ، لا يتقدمُ ساعةً ولا يتأخرُ، فلا يقعُ إلّا في وقته الذي حُدّدَ له، والمسلمُ مأمورٌ بحفظ نفسِهِ، ولا يبذلها إلّا في سبيلِ الله لنصرةِ دينِه، وحينَ الخروج لبَذلها عليه إن يذكّر نفسَه أنه لن يموتَ إلا بأجلهِ، ليزدادَ رباطةَ جأشٍ وثباتًا وإقدامًا؛ لأنّ خوفَه وجُبنهُ لن يزيدَ في أجلهِ، وثباتَه وإقدامَه لن يقربَ أجلَه، وهذا هو الفرق بين مَن يقاتلُ في سبيلِ الله ومَن يقاتلُ في سبيلِ الطاغوت، فإنّ الأولَ لا يهابُ الموت؛ ليقينه بأنه مقدرٌ بأجلٍ، وإذا حصلَ فقد فاز بالشهادة، والثاني يخشَى الموتَ، ولا شيءَ يحملهُ عليه، فإذا ما داهمهُ الخطرُ لم يثبتْ، ومِن الشعر في هذا المعنى:
تأخرتُ أستبْقي الحياةَ فلم أجدْ لنفسِي حياةً مثلَ أنْ أَتقدَّما
وقول الآخر:
وقولي كلَّما جَشأَتْ وجاشَتْ مَكانَكِ تُحمَدِي أو تسْترِيحِي
(وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا) مفرّطًا في الآخرة، مضيعًا لحقوقِها، معرِضًا عن ثوابِها، طالبًا بدلهُ المالَ والمتاعَ أو السلطان، كالذي يختارُ الحياةَ عن الجهادِ في سبيل اللهِ، إيثارًا للراحةِ، أو يشقّ صفّ المسلمين ويخذلهم؛ نظيرَ وعدٍ بمنصبٍ، أو صفقةٍ في تجارة، فمَن أرادَ الدنيا على هذا الوجهِ المذمومِ (نُؤْتِهِ مِنْهَا) نوفهِ أجرَ الدنيا، ونمكنهُ منها، وما لَهُ في الآخرة مِن خَلاقٍ، وفي الآية تعريضٌ بما وقعَ مِن الرُّماة يوم أحد، تركوا ظهورَ المسلمين للعدوّ، ونزلوا لجمع الغنائم، فاستبدلوا عرضَ الدنيا وجمعَ الغنائمِ بالثباتِ والنصرِ، وما وعدَ الله تعالى به الصابرين من ثواب الآخرة، والطلبُ المذموم للدنيا هو الذي يضيّعُ الآخرة، أما الجمعُ بينهما على نحو ما ذكر الله في قوله: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)([5])، بحيث تكون الدنيا في اليدِ، والآخرةُ في القلب، فهذا محمودٌ، وهو ما أمرَ به القرآن، فحظوظُ الدنيا التي لا تُضيعُ الآخرة مرغّبٌ فيها، ومقصودٌ تحصيلُها، فلا يقامُ الدينُ إلا بالسلطانِ والهيبةِ، قال تعالى: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ)([6]) الشهادة أو النصر والغنيمة، وقال تعالى: (فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ)([7])، وقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم: (نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ مَعَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ)([8])، وكما قيل:
ما أجملَ الدينَ والدنيا إذا اجتمَعَا وأقبحَ الكفرَ والإفلاسَ بالرجلِ
قال تعالى: (وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأولَى)([9]) (وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ) بعدم التفريطِ فيه إذا تعارضَ مع ثوابِ الدنيا، فيجعل همَّه مرضاةَ ربه دونَ مرضاةِ خَلقِه، ولا يبدله بمالٍ يُبذل، أو وجاهةٍ أو منصبٍ يُعرَض (نُؤْتِهِ مِنْهَا) نوفه أجرَ الآخرة وثوابَها، كما كان مِن الذين انحازوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يذبُّونَ عنه حتى كشَفُوا عنه العدو، ولم يلتفتوا إلى الغنائم (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) سيكونُ للمريدينَ الآخرةَ الجزاءُ الأَوفَى، وأُسند جزاءُ الشاكرين الذين يريدونَ الآخرة إلى اللهِ بالاسمِ الظاهر، وأُبهم قدرُ هذا الجزاءِ فلم يُحدَّدْ، تفخيمًا له؛ لتذهبَ فيه النفس كلّ مذهبٍ، ترغيبًا فيه، فالعطاءُ من الكريمِ لا يُقدّر بقَدرٍ، ولا يحدّ بحدٍّ.
[1]) البقرة: 137.
[2]) المائدة: 67
[3]) المائدة: 3.
[4]) مصنف ابن أبي شيبة: 34408.
[5]) القصص: 77.
[6]) التوبة: 52.
[7]) آل عمران: 148.
[8]) صحيح ابن حبان: 3210، ومسند الإمام أحمد: 17763.
[9]) الليل: 13.