المنتخب من التفسير -الحلقة 234- سورة النساء

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 

 الحلقة (234)

(فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا) [النساء:41-42].

(فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) قوله تعالى قبل هذه الآية: (إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) جاءَ بعد أن وبّخَ الله اليهود والمشركين على الإعراضِ عن الإيمانِ، وأنه ليس لهم عذرٌ يمنعهم منه؛ ليُبينَ لهم عدلَ الله، وأنه لا يظلمُ مثقالَ ذرة؛ إطماعًا لهم في الرجوع إلى الحق، وأَلّا ييأسُوا، ثم في قوله: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) رجع بهم مرةً أخرى إلى التخويفِ من عاقبةِ ما هم عليه، فإنه إذا كان اللهُ لا يظلمُ مثقال ذرةٍ، فكيف يكونُ الحالُ المؤلمُ والمشهدُ المروعُ الذي ينتظرُ المكذبين للرسلِ، عندما يقومُ الأشهادُ، وتلزمُهم الحجةُ؟ فإنّ الرسلَ سيشهَدونَ على أقوامِهم بأنهم بَلَّغوهم وبَيَّنوا لهم، ولم يألُوا جهدًا في النصح لهم، والحرصِ عليهم، ولم يبخلُوا عنهم بالصبرِ الطويلِ؛ لهدايتِهم، وكيف يكونُ الحال مع أمتكَ، عندما يجئُ الله بكَ شهيدًا عليهم؟ ماذَا سيكون جوابُ هؤلاء الكفرة والمشركين؟ ليس لهم مهربٌ، إنهم إذا جحدوا، وقالوا: ما جاءنا مِن بشيرٍ ولا نذيرٍ، ختمَ الله على أفواهِهم، ونطقتْ جوارحُهم، حينها يودُّ الذينَ كفروا وعصَوا الرسول أحدَ أمرين: أنْ لو تسوَّى بهم الأرضُ، فترتفع كالجبلِ وتسترُهُم، ليتخلَّصُوا من مواجهة الشهادةِ، أو أن لو كانوا تحتَ أطباقِ الأرضِ موتى؛ فيكون ذلكَ أهونَ عليهم من الكتمانِ، الذي لا جدْوَى منه.

والفاءُ في قوله (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا) فاء الفصيحة، أي: إذا كان اللهُ يجازي على القليلِ والكثيرِ، ولا يظلمُ مثقالَ ذرة، فكيف يكونُ حالُ مَن كذّبك مِن اليهودِ والمشركين، والجاحدينَ للنعم، الذين يبخلونَ ويأمرونَ الناسَ بالبخل؛ و(كَيْفَ) اسم استفهامٍ منصوبٌ على الظرفية، العاملُ فيه فعلٌ مقدر، تقديره: فكيفَ يصنعونَ إذا جئنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا؟! والاستفهام للتعجيبِ مِن حالِهم، واستمرارِهم في التكذيب، مع شدةِ هولِ ما ينتظرُهم، و(إذَا) في قوله (إِذَا جِئْنَا) ظرفُ زمانٍ مضافٌ للجملة بعده، أي: فكيف يصنعونَ في الوقتِ الذي يؤتَى برسلِهم لتشهدَ عليهم، وقوله (بِشَهِيدٍ) أي برسولٍ شاهدٍ على أمته؛ لقوله بعد ذلك (وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) فضميرُ (بِكَ) لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم؛ تشريفًا له بخطابِ الحضور، فعندما يؤتَى بالرسل يشهدونَ على أممهم، ويؤتَى بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم شهيدًا على هذه الأمة، يومئذٍ يكون الخطبُ شديدًا، وشهادةُ النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة، تعمُّ أمةَ الدعوة وأمةَ الإجابة، أي على مَن آمَنَ من أمتهِ صلى الله عليه وسلم ومَن كفرَ، وعلى مَن أطاعَه ومَن عصاهُ، جاء في الصحيح عَن عَبدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: (قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اقْرَأْ عَليَّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أقْرَأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ، حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ الآيَةِ: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَآءِ شَهِيدًا﴾، قَالَ: حَسْبُكَ الآنَ، فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ، فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ)([1]).

وقوله: (عَلَى هَؤُلَاءِ) الإشارة إلى الكَفَرة والمشركين، أو إلى ما يعمُّهم ويعمُّ المؤمنين، فإن قوله (شَهِيدًا) حُذفَ معمولُه؛ ليعمَّ الفريقين ونوعي الشهادة، أي: شهيدًا لهم وعليهم (وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ) يصحّ أن تكونَ معطوفةً على جملة (يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ) فتكونُ الأولَى للكفار، والثانيةُ للعصاة، ويصحّ أنْ تكونَ الجملةُ حاليةً، على معنى: يودُّ الذين كفرُوا، والحالُ أنهم عصَوا الرسولَ بكفرِهم (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) لشدةِ خوفِهم من مواجهة مصيرِهم، يتمنونَ أن لو كانوا مع الأمواتِ، أو لو ارتفعتِ الأرض، فسترتْهم، فلَا يواجَهونَ بالإدانةِ والذلّ الذي يلحقهم، و(لَوْ) يصحّ أن تكون مصدرية، أي: يودونَ تسويةَ الأرضِ بهم، أو أن تكونَ شرطيةً، جوابُها محذوفٌ، تقديره: لو تسوّى بهم الأرض، لكان أهونَ عليهم، أو خيرًا لهم، والباء في قوله (بِهِمُ) للملابسة، أي: يودّون أن يُدفَنوا ملابسينَ ملازِمينَ للأرض، لا ينفكُّونَ عنها؛ ليدوم سترهم بها، أو بمعنى (على)، أي: يودون لو تسوَّى عليهم الأرض؛ لأنهم إذا رأوا الرسلَ تشهدُ على أممهم، يَرَوْن أنّ ابتلاعَ الأرض لهم أهونُ عليهم مِن أن يكتمُوا الله حديثًا، فالكتمانُ فضيحةٌ، ولا فائدةَ منه؛ لأنه بعدَ أن يشهدَ عليهم الرسل يختمُ على أفواهِهم، وتشهدُ عليهم جوارحُهم، قال تعالى: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)([2])، وقال: (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)([3])، فيصيبهم من الخزي ما يتمنونَ معه أن لو كانُوا أمواتًا([4]).

[1]) البخاري: 5050.

[2]) النور:24.

[3]) فصلت: 21.

[4]) جملة: (وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا) إمّا معطوفةٌ على مفعولِ (يَوَدُّ) المنسبك من (لو) المصدرية والفعل، أي: يودُّونَ تسويةَ الأرض بهم، ويودّون ألّا يَكتُموا الله حديثًا، وإما أن تكونَ حالية، أي: يودون تسويةَ الأرض بهم، والحالُ أنهم لا يكتمونَ الله حديثًا.

التبويبات الأساسية