المنتخب من التفسير -الحلقة 278- سورة النساء

 

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

الحلقة (278)

[سورة المائدة:5].

 

 

ٱلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَٱلْمُحْصَنَٰتُ مِنَ ٱلْمُؤْمِنَٰتِ وَٱلْمُحْصَنَٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكُمْ

إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِىٓ أَخْدَانٍۢ وَمَن يَكْفُرْ بِٱلْإِيمَٰنِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِى ٱلْءَاخِرَةِ مِنَ ٱلْخَٰسِرِينَ (5)

 

(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ) تمهيدٌ لنوعٍ آخر من الامتنان بما أباحه الله للمؤمنين، وقوله (الْيَوْمَ) كناية عن الزمن الحاضر، وقت نزول هذه الأحكام، وما بعده، وتقدمَ ذكر إباحة الطيبات، وأُكد في مستهلّ هذه الآية مرةً أخرى، ليُرتب عليه إباحة طعام أهل الكتاب، ونكاح نسائهم، وأهل الكتاب الذين أحلت الآية طعامهم، هم مَن يدينونَ بالتوراة والإنجيل، والإضافة في (طَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ) للملابسة، أي: الطعام الذي لهم فيه معالجةٌ وأثرٌ، مما له تعلقٌ بدينهم ويظنُّ حرمته علينا، فلفظ الطعام وإن كان عامًّا، فالمقصودُ الأولُ منه ذبائحُهم، فقد جاء عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: “طَعَامُهُمْ: ذَبَائِحُهُمْ”([1])؛ لأنّ غيرها لم يُختلفْ في حلِّه، وما عدَا الذبائح من الطعام – مما يتطلب تلبسًا ومعالجةً – فهو تابعٌ للذبائح في حكمه، والتوقّي منه يتبع حكم الذبائحِ، وما كان خاليًا من ذلك، ولا يتطلبُ معالجة، كبيع الحبِّ والتّمور والفاكهة والطعام المعلّب، الذي ليس لهم فيه سوى مناولته بالبيعِ ونحوه، فهذا حلالٌ، وليس هو من طعامِهم المختص بهم أصلًا، فالذي أباحَه الله لنا مِن طعامهم في هذه الآية ذبيحتُهم، لكن بشرط أن تكونَ على وفق كتابِهم ودينِهم، وإن كان محرّفًا؛ لأن لوصفهم بأهل الكتاب – أي دين سماوي – أثرًا في الإباحة، فما دام الكتابي من اليهود والنصارى يعتقد أنه يذبح وفقًا لدينه وكتابه، ويتبع طريقةً واحدة للذكاة، يلتزم بها أحبارهم وكنائسهم وبيعُهم، ويرونها من دينِهم عبادةً يتعبدون الله بها، فإنها تكون بذلك حلالًا، وإن كان الدين محرفًا، حتى لو لم تستوفِ شروط الذكاة عندنا، أما إذا كان الذبح في مجازرهم العامة كما نراه اليوم، وسائله متعددةٌ ومتباينةٌ، ولا يلتزمونَ فيه بطريقةٍ واحدةٍ، ولا يرونه عبادةً ولا من الدين، بل هو من المسائلِ المدنية، التي يحكمها القانون المدني المتغير، فليست هي ذبيحة أهلِ الكتاب؛ لأنه لا علاقةَ لها بكتابهم ولا دينهم، وقد رأيناهم يختلفونَ فيها اختلافًا كثيرًا، منهم من يضرب بالرصاصِ أو يصعق بالكهرباء، ومنهم من يقتل بالخنقِ بالهواء وبالضربِ بالحديدة المدببةِ على الرأسِ وغيرها، ثم بعد هذا الفعل بالحيوانِ وقد نفذت في الغالبِ مقاتلُه، يجرّون الموسى عليه، فهذا من الميتة، حتّى لو فعله أحدٌ من المسلمين لكانَ ميتةً من المحرمات، فكيف إذا فعله غيرُ المسلم، وليس كلّ طعامهم حلالًا لنا، فإن مِن طعامهم الخنزير والخمر والميتة، فالذبح اليوم عند أهل الكتاب صار من المسائل المدنية، وليست العبادية، تنظمه لوائح وقوانين كل حكومةٍ محلية أو تنفيذية بالطريقة التي تراها، لذا هي تختلفُ بينهم من بلد لآخر، وتختلف داخل البلد الواحدِ اختلافًا كثيرًا، فينبغي توقِّيها، كما ينبغي التوقي مما يُعدونه من الطعام في المطاعم والأماكن العامة؛ لأنهم يستعملون شحمَ الخنزير كثيرًا، لرخصِ سعره، ولأنه حلالٌ عندهم (وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) ما كان في شريعتنا من الطعام حلالًا كان حلالًا لهم أيضًا، ولو كانوا لا يأكلونَه، كلحم الإبل، وأهل الكتاب في الغالبِ لا يتحرجونَ من طعام المسلمين (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ المؤْمِنَاتِ) عطف على الطيبات، أي: أحل لكم الطيبات، وأحلَّ لكم نكاح الحرائر من النساء المؤمنات؛ لأن نكاح الأمَةِ لا يجوز، إلا عند عدم الطَّولِ وخوفِ العنتِ، فالمحصنات: الحرائر، وإن حُملت المحصناتُ على العفيفاتِ فيكون إذْنَ إرشاد، للحث على الحرص على العفيفات من المؤمنات، والبعد عن أماكن الرِّيبة (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي: وأحل لكم زواجَ الحرائرِ مِن أهل الكتاب دونَ الإماء، فالأمَةُ الكتابيةُ لا تحل للمسلم، حرًّا كان أو رقيقًا، وهو شاملٌ للذميين والمعاهَدين عند جمهور العلماء، لا الحربيين، وهو قول ابن عباس رضي الله عنه ([2])، وأخرج عبد الرزاق عن عليّ رضي الله عنه بإسناد صحيح؛ أنه كان يكره ذبائح نصارى بني تغلب ونسائهم، وَيَقُولُ: “إِنَّهُمْ لَا يَتَمَسَّكُونَ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ إِلَّا بِشُرْبِ الْخَمْرِ”([3])، وقد ورد في الموطأ حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال في المجوس: (سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ)([4])، قال مالك: “في الجزية لا في أكل ذبائحهم ونكاحِ نسائهِم”([5])، والأجور في قوله (إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) هي المهور، سُميت أجورًا؛ لأنّ الرجل يتحملُ المهر نظير القوامَة التي جعلت له، وليس المهر أجرًا حقيقةً، لأنه لو كان كذلكَ لوجبَ بيانُ مدة الإجارةِ ومقدارِ العوضِ ونحوِ ذلك، والآية تدلُّ على اشتراطِ المهرِ في النكاح؛ لأن الإذنَ معلقٌ عليه، والإيتاءُ: التعهد والالتزام، فتسليم المهور ليس شرطًا، ومسافحين من السِّفاح، وهو الزنَى؛ لأن الزّاني لا غرضَ له إلَّا المتعةَ بسفحِ الماء، أي: أحلّ لكم نكاحَ المحصناتِ حالةَ كونكم تبتغون مِن النكاح العصمةَ والعفةَ، مبتعدين عن الزنَا والسفاح، والأخدان جمعُ خِدْن، يطلقُ على الذكر والأنثى، وهو ما يتخذُ في السر للمتعةِ والمعاشرةِ، أي لا يحلُّ لكم اتخاذُ ذلك، كما هو شائعٌ اليوم في بلادِ الغرب، يبيحون تعددَ الأخدانِ، ولا يبيحونَ تعدد الزوجات، ثم قال الله تعالى (وَمَن يَكْفُرْ) بالدينِ وما شرعهُ الله من الأحكام ويردَّها (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) أي أذهبه الله وأبطله بالكلية، فلا يبقى له منه شيءٌ، وإن كان صاحبُه يراه صالحًا، وأصل الحبْط إفساد ما كان صالحًا، ومنه الحبَطُ، الذي هو داءٌ يقتلُ الحيوان، من فرطِ أكلِ الخضرِ في أولِ الربيع، أولُه صلاحٌ وآخرُه فسادٌ وموتٌ، وفي الحديث: (وإنَّ ممَّا يُنبتُ الربيعُ يَقتُلُ حَبَطاً، أو يُلِمُّ)([6]).

[1]) البخاري تعليقا: بَابُ ذَبَائِحِ أَهْلِ الكِتَابِ وَشُحُومِهَا، مِنْ أَهْلِ الحَرْبِ وَغَيْرِهِمْ: 7/92.

[2]) ينظر السنن الكبى للبيهقي: 14350.

[3]) المصنف: 8570.

[4]) الموطأ:616.

[5]) الاستذكار: 22/ 239.

[6]) البخاري: 699.

التبويبات الأساسية