بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (294)
[سورة المائدة: 54-56]
(يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرتَدَّ مِنكُم عَن دِينِهِ فَسَوۡفَ يَأتِي ٱللَّهُ بِقَومٖ يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلمُؤمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ
وَلَا يَخَافُونَ لَومَةَ لَآئمٖ ذَٰلِكَ فَضلُ ٱللَّهِ يُؤتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ)(54)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) عقيب النهي عن الموالاة للكافرين خوِّفَ المؤمنونَ مِن الارتدادِ عن الدين؛ لأنّ الموالاةَ قد تؤدّي إلى هذا المصير، وتجرُّهم إليه، وبيَّن لهم أنّ مَن ارتد فلن يضرَّ إلا نفسَه، فالله قادرٌ على أن يأتيَ بقوم غيرهم، ومَن في قوله (مَنْ يَرْتَدَّ) شرطيةٌ مبتدأ، والردّ والارتداد: الرجوع إلى المكان المتروكِ، ومنه قوله: ﴿رُدُّوهَا عَلي﴾([1]) ويطلقُ على التحولِ من حالٍ إلى حال، ومنه قوله: ﴿وَمِنكُم مَّن یُرَدُّ إِلَىٰۤ أَرذَلِ ٱلعُمُرِ﴾([2])، والارتداد في الآية يصلح للمعنيين، فمن يرتَدِد عن دينِه قد تكونُ ردته برجوعه إلى دينٍ كان عليه، وقد يكون بالتحول عن الإسلامِ وتركه، لا بقيد رجوع إلى معتقدِهِ الأول، فكل ذلك ارتدادٌ، وجملة (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) يصح أن تكون هي جواب الشرط، واقعة خبر مَنْ الشرطية، والعائد على المبتدأ محذوف، ويصح أن يكونَ جواب الشرط الواقع خبرًا محذوفًا، تقديره: مَن يرتدِدْ فهو مطرودٌ محروم، والمذكور (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ) يدلّ عليه، قائم مقامه، وقد ذكرت الآية أنّ الردة خسارةٌ للمرتدّ، وأنّ مَن ارتدَّ فلن يضرّ إلَّا نفسَه، ولن يضرّ الله شيئًا، أما الإسلام فإنّ اللهَ مؤيده وناصرُهُ، وسيخلفُ اللهُ مَن ارتدَّ بآخرين بدله، ينصرونه وينصرُون أهله، وقد ارتدَّ في آخر حياة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ثلاث؛ أَصحَاب الْأَسوَدِ الْعَنْسِيِّ بِاليَمنِ، وقد قتلَ الأسود في الليلة التي مِن غدِها ماتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرحَ المسلمونَ بذلك، وارتد أَصحاب طَلحَة بنِ خُوَيلِدٍ في بَنِي أَسَدٍ، بعث أبوبكر الصديق في خلافته بخالد بن الوليد إلى طلحة ففرَّ إلى الشام، ثم أسلمَ وحسنَ إسلامُه، وارتدَّ أَصحَاب مُسَيلِمَةَ الْحَنَفِيِّ باليَمَامةِ، وقد كتبَ مسيلمةُ الكذابُ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كتابًا، قال فيه: مِن مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، فإنّ الأرضَ بيني وبينك نصفينِ، فردَّ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم: (من محمدٍ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمةَ الكذَّاب، أمّا بعد؛ فإنَّ الأرضَ لله، يورثها من يشاءُ من عباده، والعاقبة للمتقين)، وفي عهد الصديقِ ارتدَّ كثيرٌ من قبائل العرب، حتى قيل إنه لم يبقَ مِن المدن الإسلاميةِ إلا أصحابُ مساجدَ ثلاثة؛ مسجد المدينة، ومسجد مكة، ومسجد جُؤَاثَى بالبحرين، فارتدَّ مِن فزارة قوم عيينةَ بن حصن، ومن غطفانَ قوم قرّة بن سلمة القشيري، ومِن بني سليم قوم الفجاءة بن عبدِ يالِيل، ومن بني يربوع قوم مالك بن نويرة، وبعض مِن تميم قوم سجاحَ بنتِ المنذر المتنبئة زوجة مسيلمة، تنبأتْ، لكنها أسلمت وحسنَ إسلامُها، ومن كندةَ قوم الأشعثِ بن قيس، ومن بني بكر بن وائل بالبحرين قومُ الحُطَم بن زيد، وخاض أبوبكر رضي الله عنه مع هذه القبائل المرتدة حروبًا طاحنةً، لا هوادةَ فيها، أعادتْ للإسلام قوته وعزته، كما وعد الله في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) فرجعَ الناسُ إلى الإسلام أشدَّ ما كان تعلقُهم به، ودفاعُهم عنه، وهؤلاء الذين أعزهم الله بالإسلام هم الذين أطاحُوا بدولة فارس في القادسية، وقدَّموا نحوًا من سبعةِ آلافِ شهيد (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) هذه إحدى صفات من يأتِي بهم، يحبُّهم الله، يرضى عنهم ويقربهم إليه، ويشملهم بعنايته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن الباري عز وجل: (… وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ؛ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا…)([3])، وهم يحبونه بتقربهم إليه بما شرعه من الطاعات، و(أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) جمع ذليل، بمعنى المشفق اللين، أي أنهم هينونَ على إخوانهم، يخفضُون لهم الجناحَ، ويَلينون لهم في القولِ والعمل، وعدّيَ بعلَى للمقابلة بـ(أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) من باب المشاكلة، أو لتضمنه معنى الحنو والشفقة، وأعزة من الإعزاز، وهو القوة والشدة، فالمتصفون بالإيمان بالمقابل هم أشداء على الكافرين، كما قال تعالى: (أَشِدَّاۤءُ عَلَى ٱلكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَینَهُم)([4])، ومن صفاتهم أيضًا أنهم يجاهدون في سبيل الله ويبذلُون أرواحَهم، التي هي أعزّ ما يملكون، لإعلاء كلمة الله، لا تلينُ لهم قَنَاة، أشد ما يكونون صلابةً في دين الله، وثباتًا على الحق، لا يزحزحهم عنه ولا تثنيهم لومةُ لائم، و(لَوْمَةَ لَائِمٍ) نكرتان في سياق النفي تفيدان العموم، فهم لا يكترثون بما يتعرضون له مِن اللوم، مهما كان اللائمُ لهم، واحدًا أو جماعةً، ومهما كان نوع اللومِ، بالتخويفِ أو الترغيب (ذَلِكَ) الثباتُ على الحق وعدمُ الاكتراث باللوم، هو (فَضْلُ اللهِ) يعطيه (مَن يَشَاءُ) ممَّن علمَ إخلاصَه وصلاحَ أمره، والله واسع الفضل عظيم العطاء، عالمٌ بمَن يستحقُّ الفضل ممَّن لا يستحقّ.
(إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُم رَٰكِعُونَ)(55)
هذه الآية (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ) متصلة بالنهي عن موالاة اليهود والنصارى؛ لأنه لما نُهُوا عن موالاتهم كأنه قيل: فمَن يُوالون إذًا؟ فقال (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) وهذا أُسلوبٌ قصرَ ولاية المسلم على أن تكون للهِ قصرًا حقيقيًّا، من قصر الصفة على الموصوفِ، وأفردَ الولي ولم يقل أولياؤكم؛ ليفيد أنّ الولاية لله بالأصالة، وللرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالتبع، والتقدير: إنّما وليكم الله وكذلك الرسول والمؤمنون، وقوله (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) وما بعده، صفاتٌ للمؤمنينَ الذينَ يُوالَوْن، فالموالاة تكون للصالحينَ الطائعين لله، لا للظلمةِ والمفسدين وجملة (وَهُمْ رَاكِعُونَ) اسمية عطفت على (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ) لإفادة أنهم على الركوع -الذي هو الصلاة- دائمون؛ لما في الاسمية من معنى الثبات والدوام.
(وَمَن يَتَوَلَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَإِنَّ حِزبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلغَٰلِبُونَ)(56)
بعد أن ذكر الله تعالى أن المؤمنين لا تكونُ ولايتهم إلا للهِ ولرسوله، ذكر أنهم إذا كانوا كذلك فإنهم الغالبون؛ لأنهم حزب الله، فـ(مَن) اسم شرط، و(حِزْبَ اللهِ) الحزب: القوم يجتمعون لأمر أهمهم وحزّبهم، وجواب الشرط محذوف، تقديره: ومن يتول الله ورسوله فأولئك هم الغالبون،: فقوله (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) دال على الجواب المقدر، وليس هو الجواب؛ لأن الفاء مع إن واقعة موقع التعليل، أي: فهم الغالبون؛ لأن حزب الله وجنده هم الغالبون، قال تعالى: (وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلغَٰلِبُونَ)([5])، وأظهرهم في موضع الإضمار للتنويه بشأنهم.
[1]) ص: 33.
[2]) النحل: 70.
[3]) البخاري: 6502.
[4]) الفتح: 29.
[5]) الصافات: 173.