بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (203)
(وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)[آل عمران:161-164].
(وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) قرئ يَغلّ ويُغلّ بالبناء للفاعل وللمفعول، مِن الغلول، وأصلُه في اللغة: الأخذُ في خفية، والمراد به أخذ شيءٍ من المغنم خِفيةً، فهو الخيانة، والسرقة من الغنيمة، وتوسعَ الفقهاء؛ فسمّوا الاختلاس والسرقة من المال العام غلولًا، وورودُ الآية بنفي الغُلول عن النبي صلى الله عليه وسلم على القراءتين، ببناء الفعل للفاعل وللمفعول، سببُه أنه فُقدت يوم بدر قطيفةٌ حمراء، فقال المنافقون: لعل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أخذها، فردّ اللهُ تعالى عليهم: ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم([1])، أي ليس مِن خلقه أن يَغل بالبناء للفاعل، أي يوجد غالّا، ولا أن يُغل، ينسبَ إلى الغلول، على قراءة بناء الفعل للمفعول، فلا يقعُ منه ولا يرضاه، وصيغة (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) معناها النهي، ولفظها لفظ الخبر؛ للمبالغة في النهي، حتى كأنه امتُثل، وتأتي مثلُ هذه الصيغة كثيرًا لامتناع الفعلِ، كما في قوله تعالى: (مَا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا)([2]) (مَا كَانَ لِلهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ)([3]).
(وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وعيد شديد عام، لكل من تقع منه الخيانة للمال العام، بالاختلاس ونحوه، فإن من يأخذ شيئًا صغيرًا أو كبيرًا منه – حتى الخياط والمخيط – يحمل أوزاره، ويأتي به يوم القيامة يحمله على عنقه، تشنيعًا عليه، وتشهيرًا به على رؤوس الأشهاد، ويشتعل عليه نارًا، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن صاحب الشملةِ الذي قُتل في الغزو، وقالوا: هنيئًا له الجنة، فقال صلى الله عليه وسلم: (كَلاَّ، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَ يَوْمَ حُنَيْنٍ مِنَ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا)([4]) (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) ثم في القيامة يقع الجزاءُ بالقسط والعدل، مِن كل مَن غلّ، فأخذ شيئًا من المال العام بغير حق، ولغيرهم، فتُجزَى كلُّ نفسٍ بعملِها، وتوفَّى كسبَها، فمَن عملَ عملًا صالحًا وجدَ خيرًا، ومن عمل غير ذلك – غلولا أو غيره – وجده محضرًا، ولا يظلم ربك أحدًا؛ فأنّ تعميمَ المؤاخذة بكل عملٍ فيه إثمٌ يفهم منه المؤاخذة بالغلول، الذي هو من الكبائر مِن باب أولى، ولذا لم يأتِ التذييل بالوعيد خاصًّا بالغالِّ، فيُقال مثلا: ثم يوفى – أي الغالّ – ما كسب، بل عمم كلَّ نفسٍ، وكلَّ كسب.
(أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) الاستفهام في (أَفَمَن اتبع) إنكاري، والمعنى: هل مَن سَعى وتطلّب رضوانَ الله بالطاعة والاستقامة، والثباتِ عند لقاء العدو، وبذلَ نفسه وماله، مثلُ مَن رجعَ على نفسِه بغضبِ الله وسخطه ومقته، بسبب معاصيه أو خذلانه ونفاقه؟! أي ليسوا سواء؛ لأن مَن باء بسخط الله مصيره النار، ومأواهُ جهنم، وبئسَ المصير مصيرُه، ومنه يُعلم بالمقابلة أنّ مصير مَن طلب رضوان الله الجنة، والمصيرُ المكان الذي يصار إليه، وهو وإن كان فيه معنى الرجوع، فإن الرجوع يكون إلى المكانِ الأولِ المتروكِ، والمصير يكون إلى حالٍ آخر؛ لأنه من الصيرورة، وهي الانتقالُ من حالٍ إلى حالٍ أخرى، كما في قولهم: صار الخشب بابًا.
(هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) ضمير (هُمْ) يعود على من اتبع رضوان الله، و(دَرَجَاتٌ) بمعنى أصحاب الدرجات؛ أي هم أصحاب الدرجات، أما مَن بقابلهم مِن أهل النار فهم أهلُ الدركات، وإضافتهم (عِنْدَ اللهِ) للتشريف، أو الضمير (هُمْ) يعود إلى الفريقين: مَن اتبع رضوان الله، ومَن بآء بسخطٍ مِن الله، أي: هم كالدرَج متفاوتون علوًّا وسفلًا في الثوابِ والعقابِ، والتذييلُ بأنّ الله بصير بأعمالهم يتضمنُ وعدًا لمن أطاعه، ووعيدًا لمن عصاه.
(لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) (مَنَّ) أنْعم وتفضَّلَ (عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) الذين كانوا على عهدِ النبي صلى الله عليه وسلم، بقرينةِ (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ) ومنَّتهُ سبحانه بتبليغِ النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ذلكَ لاحقةٌ لكلّ المؤمنين (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) من جنسِ العرب، ونسبه فيهم، يتكلمُ لغتَهم، ويسهلُ عليهم فَهمُ ما جاءَ به مِن الوحي (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ) يقرأ عليهم جمل القرآن، وسميت الجملةُ من القرآن آيةً؛ لأن كل جملة منه آيةٌ وحجةٌ على صدقِ النبيّ صلى الله عليه وسلم (وَيُزَكِّيهِمْ) يطهرُهم من دنسِ الجاهلية في العقائد، وفي العادات والأخلاق (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ) يبين لهم مقاصد القرآن ومعانيه (وَالْحِكْمَةَ) ويعلمهم الشريعة مما ليس مِن الوحيِ المتلوِّ (وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)([5]) وقد كانوا في ضلالٍ بيِّنِ الضلالة، فليس في ضلالهم قبل مجيئهِ صلى الله عليه وسلم التباسٌ ولا شبهة.
[1]) سنن الترمذي: 3009.
[2]) النمل: 60.
[3]) مريم: 35.
[4]) الموطأ: 986، وصحيح البخاري: 4234.
[5]) (إِنْ) مخففة من الثقيلة، اسمها ضمير الشأن، تسمى عند جمهور النحاة غير عاملة؛ لأنّ خبرها لا يكونُ مفردًا، بل في الغالب يكون من الأفعال النواسخ، واللام بعدها هي اللام الفارقة، تأتي للتأكيد للفرقِ بينها وبين إنْ النافية.