المنتخب من التفسير -الحلقة 221- سورة النساء

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 الحلقة (221)

 

(وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذَٰلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَىٰ بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ)[النساء:12-14].

هذه آية الكلالة، وتسمى آية الصيف، وهي مما أشكلَ تفسيرهُ على الصحابة، حتى إن عمر رضي الله عنه قال: “ثَلَاثٌ لَأَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيَّنَهُنَّ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا: الْكَلَالَةُ، وَالرِّبَا، وَالْخِلَافَةُ”([1])، وقال أبو بكر رضي الله عنه: “إِنِّي سَأَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي، فَإِنْ يَكُ صَوَابًا فَمِنَ اللهِ، وَإِنْ يَكُ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ، أُرَاهُ مَا خَلَا الْوَلَدَ وَالْوَالِدَ”([2])، أي: هي تتحققُ في الميت الذي لم يترك والدًا ولا ولدًا، وهذا قول جمهور أهلِ العلم، وخصّها ابنُ عباس رضي الله عنه بمَن لا ولدَ له، وإن كان له والدٌ([3]).

فالكلالةُ: الميت يموتُ وليس في ورثته والدٌ ولا وَلد، وإنما له قرابة آخرون([4])، وقوله (وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) أي لأم، كما في قراءة أُبيّ وبعضِ الصحابة، والمعنى: وإن كان الميت رجلًا أو امرأةً، ولم يترك والدًا ولا ولدًا، وترك إخوةً لأم، فللواحدِ منهم إذا انفردَ السدسُ، فإن كانوا أكثر من واحدٍ فلهم الثلثُ، يشتركون فيه جميعًا، الذكر والأنثى بالسوية؛ لأنهم يُدْلُونَ جميعًا بالأنثى، وهي الأم، فاستوَوا في الميراث؛ ولإدلائهم بالأم فإنهم يحجبونَ عن الميراث بالأم والجدة، وبالبنتِ وبنتِ الابن بالإجماع، وعلى هذا حمل الجمهورُ الإخوةَ في الآية، حملوهم على الإخوة للأم؛ لأنهم إذا كانوا أشقاء، أو لِأب، وأُعطوا الثلثَ كما ذكرت الآية، وليس معهم أبٌ ولا أم، فباقي التركة وهو الثلثان – إذا لم يكن زوجٌ ولا زوجة – سيكون للعصبة من العمومة، وأبناء العمومة، فيكونُ الأبعدُ من العصبة -وهم العمومة- أخذَ ضعفَ العاصبِ الأقرب، وهو الثلثان الباقيان، وهذا مخالفٌ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألْحِقُوا الفَرَائِضَ بأهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَهْوَ لأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ)، وإعطاء الإخوة للأم السدس أو الثلث يكون (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَىٰ بِهَا أَوْ دَيْنٍ) أي بعد إخراج وصيةِ الميت وأداء دينه.

(غَيْرَ مُضَارٍّ) حالةَ كونِ مَن أوصى والميت كلالةٌ غيرَ قاصدٍ بالوصيةِ ضررًا ، فـ(غَيْرَ مُضَارٍّ) شرطٌ في جواز وصحة الإيصاءِ ممن يورثُ كلالةً، وهو كذلك شرط فيما تقدم في الوصية مع الفرائض الأخرى غير الكلالة؛ حملًا للمطلق على المقيدِ؛ لاتحادِ الحكم فيهما، وهو وجوب تقديم الوصية على الميراثِ، واتحادِ السبب، وهو وجود الوصية، والقيد في قوة النهي عن المضارة في الوصية، والمضارة فيها تحصلُ بأحد وجهين: ألّا يقصد بها الموصي القُربى ابتداءً، وإنما يقصد بها إضرارَ الورثة وحرمانهم، والثانية: أن يتعدَّى في وصيته الحدَّ الذي حدّه له الشرع، وهو الثلث منها، قال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد رضي الله عنه: (الثُّلُثُ، والثُّلُثُ كَثِيرٌ)([5])، وللمالكية قولان في الوصية التي قصد بها الإضرار؛ قولٌ بصحتها مع الإثم، ورجحه ابنُ ناجي؛ للنهي عن الضرر([6])، والنهي عنده لا يقتضي الفساد،  والقولُ الآخر  ببطلانها؛ فإن النهي يقتضي الفساد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ)([7])، وهذا القول الثاني مأخوذٌ من المدونة (وَصِيَّةً مِّنَ اللهِ) مصدرٌ منصوبٌ بفعل محذوف تقديره: يوصيكم وصيةً منشؤُها ومصدرُها من الله، فمِن في (مِن اللهِ) للابتداء، أي: يوصيكم بالتقيدِ بما وصّاكم به في قسمةِ المواريث (وَاللهُ عَلِيمٌ) بما يحقق العدلَ بينكم في قسمة فرائضِها (حَلِيمٌ) بالضعفاء مِن الصغار والنساء، ممن قستْ عليهم الجاهلية، فحرمتْهم مِن الميراث، فلا تفعلوا فِعلَهم.

(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) الحدود: جمع حد، وأصله العلامة تميز مكانًا عن آخر، بحيث يمنع تجاوزها، والمراد أحكام الله وشرائعه، والإشارة بقوله: (تِلْكَ) إلى الأحكام المتقدمة من أول السورة؛ مِن الصداق، والعدلِ بين الزوجات، أو الاقتصار على الواحدة، والقيام على اليتامى، ونظر الأولياء في أموالهم، وأموال السفهاء، وأحكام المواريث وفرائضها المفصلة، كلُّ تلك الأحكام هي شرائعُ الله تعالى وأحكامُه (وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) بالتقيد بشرائعه وأحكامه (يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا) خالدين: حالٌ مقدرةٌ، أي الخلود ليس الآن، بل مقدرٌ بعد الدخول، وكذلك قوله (خَالِدًا فِيهَا) أي في النار، الآتي فيمَن يتعدّى حدود الله، وأفرد الضمير في (يُدْخِلْهُ) على لفظ (مَنْ)، وروعي معناها في (خَالِدِينَ) وعدَ الله تعالى في الآية مَن أطاعه الخلودَ في الجنة (وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

(وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا) وجاءَ الوعيدُ في خلودِ أهل النار في هذه الآية بالمفرد (خَالِدًا) لعله زيادة في عذاب مَن يتعدّى حدودَ الله؛ لأن الوحدة في ذاتها عذابٌ، فهم يعذّبون عذابين؛ بالنار، وبالانفراد فيها، ولعلّ هذا في بعضِ أحوالهم، فقد جاء في آياتٍ أخرى عذابهم بلفظ خالدينَ، لكن لم يأت في القرآن خلود المؤمنين في الجنة إلا بلفظِ الجمع خالدين؛ لأنّ الأُنس مع الأخلاء نعيمٌ آخر لهم، كما أن الانفرادَ في النار لأهلها في بعضِ أحوالهم عذابٌ آخر لهم.

(وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ) وكما وُعد المطيعون بالخلود في الجنّة مع الأنس بين الأخلاء، تُوعّدَ من يعصِ اللهَ ورسوله، ولا يتقيد بشرائعه وأحكامه، بعذابٍ فيه ثلاثة أوصاف أليمة؛ خلودٌ في النار، ووحدةٌ وانفرادٌ، ومهانةٌ وإذلالٌ.

والخلودُ في النار الواقع على المؤمنين هو طولُ الإقامة فيها، وليس معناه التأبيدُ، على حدّ قول القائل:

وَلَا خَالِدًا إِلَّا الْجِبَالَ الرَّوَاسِيَا ([8])

 

[1]) ابن ماجه:2727.

[2]) البيهقي في الكبرى:12263.

[3]) الحاكم:3187.

[4]) فقوله: (رَجُلٌ) اسم كان، و(يُورَثُ) خبرها، و(كَلَالَةً) منصوب على الحال، و(امْرَأَةٌ) معطوف على (رَجُلٌ).

[5]) ابن ماجه:2708.

[6]) ينظر حاشية الدسوقي:4/428.

[7]) الحاكم:2345.

[8]) عجز هذا البيت لزهير، وصدره:

أَلَا لَا أَرَى عَلَى الْحَوَادِثِ بَاقِيًا

التبويبات الأساسية