بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (128).
(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ)[البقرة:240-242].
المتاع هو السكنى، أي سكنى الزوجة المتوفى عنها زوجها، وبقاؤها في بيت الزوجية مطلوب، موصى به من الشارع، فالجملة خبرية لفظًا طلبية معنًى، والمعنى: والّذين يتوفون من الرجال ويتركون خلفهم زوجات، وصيةٌ من الله إليهم ومطلوبٌ منهم إبقاؤُهن في بيت الزوجيةِ حولًا كاملًا، فلا حقّ لأحدٍ في إخراجهنّ منه، وهذا عند جمهور العلماء على ما كان عليه الأمرُ في أولِ الإسلامِ، من أنّ عدةَ الوفاةِ كانت حولًا كاملًا، أخذًا مِن هذه الآيةِ، ثم نُسخت بالآية المتقدمةِ، في قوله: (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) . (غَيْرَ إِخْرَاجٍ) حالة كونهن غير مخرجاتٍ من البيوت، لا يخرجهن منها أحدٌ، يُمتّعنَ فيها بالسكنى، وكانت عادة العرب في الجاهلية أن المرأةَ إذا مات زوجُها، تمكثُ في خربةٍ حولًا، لابسة شرّ ثيابها، مُحدّة حزينةً، ثم تخرج على رأسِ الحول، فتأخذ بِبَعْرة وتلقيها من يدها، وتخرجُ من العدةِ. فقوله: (فَإِنْ خَرَجْنَ) أي بعدَ الحولِ (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) أي: لا جُناحَ عليهنّ في شيءٍ منَ الأشياء التي تدخل في المعروفِ، كالخطبةِ والزواج، لا فيما خرج عن المعروفِ إلى المنكرِ، كالتبرج والزنا، وإنْ قلنا إن الآية ليست في أحكام العدة، وإنما في وصية الأزواج للزوجات بالسكنى، فالمعنى: فإنْ خرجنَ واخترنَ الخروجَ قبل الحول، من غير إخراج الورثةِ (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) لا جناح عليكم في قطع النفقةِ، أو في ترك منعهن مِن الخروج، وعدم السكنى في بيت الزوج، وترك الإحداد، فيكون كل ذلك مِن المعروف؛ لأنهنّ مخيَّراتٌ فيه، لا ما خرج عن المعروف، كالخطبة في العدةِ والزواجِ؛ فلا يحل (وَاللهُ عَزِيزٌ) ينتقم ممن يتعدى حدوده (حَكِيمٌ) يراعي مصالح عباده في أحكامه، فيضع كل أمر موضعهُ اللائِق. (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) اللام في (وللمطلقاتِ) لام التمليك، والتمليكُ أقربُ في الدلالة على وجوب المتعة منهُ إلى الندب، والإطلاق فيها مع (الـ) الاستغراقية الداخلة على المطلقاتِ حجةٌ على طلبِ المتعةِ لكلّ مطلقةٍ، مدخول بها وغير مدخول بها، ولم يستثنِ مالكٌ سوى المخالعة والملاعنة، وما تقدم فيمَن طلقت قبل المسيس، وقد فرض لها الصداق؛ لأنّ الأوليين لا تحتاجان إلى جبرِ فقد استبقاء المودة؛ لأنّ الفراقَ من جهتهنَّ، والثالثة أخذت نصفَ المهر مع بقاءِ سلعتها دونَ أن تبذلَ شيئًا، فلم يوجدْ منها شيءٌ تجبر عن فقده، وقوله: (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) هو للإغراءِ على المتعةِ، والترغيبِ فيها، إذ ما مِن أحدٍ إلّا ويتمنَّى أن يكون من المتقين، على معنى أنها مِن شأنِ المتقين، وليس على معنى أنّ تَركَها يُفقد التقوَى، على حدّ قوله تعالى: (وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، فمن تمسكَ بما بقي من الربا ولم يذرْه لا يخرجهُ التمسكُ عن الإيمان. (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ) مثل هذا البيان الشافي للأحكام، يبين الله لكم آياته ودلائل شرعه (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) فتعقَّلوا عن الله شرعَه وتبصّروه.