بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (28).
(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).
(آدَم) على وزن فاعل، مِن الأُدمة كحُمرة، جمعُها أُدْم وأَوَادِم، كحُمر وأحامِر، والأُدمةُ حُمرة تميل إلى سواد.
و(الأسماءُ): جمع اسم، وهو ما دلَّ على معنى في نفسِه، يفهمُه السامع مِن اللفظ.
والمُرادُ: تعليمُ آدمَ أسماء الذواتِ، سواء كانت أعلامًا شخصيةً، مثل آدمَ، وإبليس، وحواء، والجنة، أو أسماء أجناسٍ؛ كالناس، والجنّ، والشجر، والدوابّ، والخيل، وغير ذلك.
و(ال) في الأسماءِ لاستغراق الجنس، أي: علمه كلَّ الأسماء المعروفةِ في ذلك الوقت، وأكد هذا الاستغراق بأداةِ التأكيد (كلها)، حتى لا يتبادر منها العهد.
وهل علمه الأسماءَ علم إلهام جملةً واحدة، وهو الأقربُ، أو علمه إيّاها بواسطةِ المَلَك؛ بأن يعلمه الاسم ويعرضَ عليه المسمَّى؛ كما يشاهد الواحدُ ذلك مِن نفسه.
فالذي وقع عليه التعليم هو أسماء الأشياء، وربطها بمسمياتِها وذواتها، وهو ما دلَّ عليه الظاهرُ المتبادر، لا مجرد الأسماء وحدّها، حتى يكون العلم تامًّا، ويكون للأفضليةِ معنى، بدليل قوله بعد ذلك: (ثُمّ عَرَضَهُم)، ولو كان التعليمُ لمجردِ الأسماء دون مدلولاتِها لقال: ثم عرضَهَا.
وتكلم الناس هنا على أصلِ اللغةِ؛ هل هو توقيفيٌّ، بمعنى أنّ الله تعالَى لقَّنَ البشرَ بواسطةِ آدمَ عليه السلام جميعَ اللغاتِ والأسماءِ ومعانيها، كما قال تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)[1]، أو علَّمَه ما كانَ معروفًا مِن الأسماءِ في وقته، ثم بعد ذلك ألْهَم الناسَ، وخَلَقَ فيهم قدرةً لتعلُّم سائِرِها في أوقاتِها، بتجدُّدِها وتجدُّدِ دواعيها، فمَن حصلَ له علمٌ منها فتحَ الله تعالى بهِ عليهِ علَّمه غيرَه، وخلقَ لهم في ذلك علمًا ضروريًّا، حصل لهم بمقتضاه ربطُ الأسماءِ بمسمياتِها.
ودلالةُ الآية على مسألةِ التوقيفِ في اللغة مجملةٌ، وليس فيها حجةٌ قاطعةٌ، والمسألةُ تُذكَرُ في علم أصولِ الفقه، ويمكنُ عدُّها مِن المسائلِ التي ذُكِرت فيه، وليسَ للخلافِ وراءَها طائلٌ، ولا ثَمَرة.
ولكنَّ الآيةَ دلَّتْ قطعًا على أنّ آدمَ ما فُضِّلَ على الملائكةِ إلَّا لمَا حصَلَ له مِن علمٍ حُرِمت منه الملائكة؛ لأنّ أصلَ العلومِ كلّها أسماءٌ ومسمَّياتٌ، وتعريفٌ للمجهولِ بالتوصيفِ، وكذلك النّاسُ؛ لا يَفْضُلُ بعضُهم عن بعضٍ إلّا بقدرِ ما أُعطُوا مِن العلمِ؛ كمَا قال تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)[2]، ويكفِي العلمَ شرفًا أنْ ليسَ مِن أحدٍ إلّا ويتمنَّاهُ.
وربّما ذكرُوا هنا حكمَ تغييرِ ألفاظِ اللغة، وقلبِ ألفاظِها، بناءً على كونِها توقيفيةً أو غيرَ توقيفيةٍ، لكن الذي لا اختلافَ عليه، هو أنّه لا يجوزُ تبديلُ الألفاظِ الشرعيةِ، ولا تغييرُها، ولا إحداثُ شيءٍ منها يُتَعبَّدُ الله تعالى به، لم يشرعه اللهُ تعالى، ولمْ يخبر بهِ رسولُه.
وتفضيلُ الله تعالى آدمَ بتعليمِ أسماءِ الأشياءِ، هو أفضليةُ اصطفاءٍ واجتبَاءٍ، وليست أفضليةً ذاتيةً؛ لأنّ تفضيلَه كان بسببِ أنّ اللهَ علَّمَه ولم يعلِّم الملائكةَ، ولا يكون التفضيلُ ذاتيًّا، إلّا إذا عُلّمت الملائكة ولم تتعلَّمْ.
(ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ): العَرْضُ؛ إظهارُ الشيءِ بعد خفائِه، ومنه عرضُ السلعةِ للبيع، ويوم العرضِ: المحشر، يوم ظهورِ الناسِ وبروزُهم للحسابِ والسؤالِ، والمعروضُ على الملائكةِ مسمياتُ الأشياءِ وذواتُها وشُخوصُها، لا الأسماءُ التي هي معانٍ مجردةٌ، وهو ما دلّ عليهِ قوله: (أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ).
واستعمالُ ضميرِ جماعةِ العقلاءِ في قوله: (عَرَضَهُم)، وفي المعروضِ عقلاء وغيرُ عقلاءٍ، مِن بابِ التغليبِ؛ للتشريفِ.
(فَقَالَ أَنْبِئُونِي): القائلُ هو اللهُ تبارك وتعالى، والذي عرضَ على الملائكةِ هو الله، والمخاطَب بقوله: (أَنْبِئُونِي) هم الملائكة، مِن النَّبأ؛ وهو الخبرُ المهم، الذي يتطلعُ إليه السامع، وينتبهُ إليه، كما قال تعالى: (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ)[3]، فهو ليس مجرّدَ خبرٍ.
والأمرُ في أنبئونِي للتعجيزِ؛ لعلمِ الملائكةِ أنَّ اللهَ تعالى عالمٌ بعَجزِهِم.
واستعمالُ الأمر (أنبئوني) في التعجيزِ، لا يدلُّ على التكليفِ بالمُحالِ، ولا على أنّ الملائكةَ كُلِّفَت بما لا تقدرُ عليه؛ لأنَّ الأمرَ إذا كان له أغراضٌ أخرى غير طلبِ الإتيانِ بالمأمورِ به؛ كالتهديدِ أو التهكُّم أو التعجيزِ، فلا يدلُّ على طلبِ الامتثالِ، بل أحيانًا يدلُّ على ضدِّهِ، أي: على الاجتنابِ وطلبِ التَّركِ، فمثلا قولُ الله تعالى: (فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ)[4]، أو قوله تعالى: (اعملوا مَا شِئْتُمْ)[5]، لا يدلّ على طلبِ الفعل في الأول، ولا على أنْ يعملَ كلّ أحدٍ ما يريدُ في الثاني، بل يدلُّ على طلبِ ترك المعاصي، وتهديدِ من يتعدى حدودَ اللهِ تعالى، وإذا كان الأمرُ للتعجيزِ - كما هنا - فهو لإقامةِ الحُجةِ على الملائكة، لا لطلبِ معرفةِ أسماءِ الأشياء، التي لا علمَ للملائكةِ بها.
فقوله تعالى: (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، لا يدلّ على احتمالِ أن يكون مِن الملائكةِ خلافُ الصدقِ، وأنّ مفهومَ (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) احتمالُ كذبهم، والملائكة معصومةٌ عن الكذبِ، لا يَردُ ذلك؛ لأنّ قول الله تعالى: (أنْبِئُونِي) طلبٌ لا يُنتَظرُ له جوابٌ على وجهٍ مِن الوجوهِ، إذ لا يُتوَهّم أنّ اللهَ تعالى طلبَ منهمُ الجوابَ، عمّا علم أنّهم جاهِلون به.
فالخطابُ: (أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)، سِيقَ مَساقَ التعجيزِ، وإقامة الحجّةِ، على ما وقعَ في كلامِ الملائكةِ، مِن التعريضِ بأولويّةِ الخلافةِ لهم في الأرضِ، لا لانتظارِ جوابِهم، فعجْزهُم لله معلومٌ، لذا كانَ جوابُ الملائكةِ الاعترافَ بالعجزِ الكاملِ، والتنزيه المطلقِ.
(قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا)؛ فجاءَ الجوابُ أدبًا كاملًا مع اللهِ تعالَى، وتنزيهًا لهُ وتقديسًا؛ أنْ يكونَ علمُ الغيب لأحدٍ سواه، أظهرتْ فيهِ الملائكةُ العجزَ والافتقار الكاملَ إلى اللهِ تعالى، وكأنّه اعتذارٌ منهم عن القولِ السابقِ: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا)، ويُستفادُ من قوله: (لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا)، أنّ مَن سُئلَ عمّا لا يعلمُ يقولُ: لا علمَ لِي، لا أدرِي، اللهُ أعلمُ، أو نحو ذلك؛ اقتداءً بالملائكةِ.
(إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ): (العليمُ) صيغةُ مُبالَغة، مِن العلمِ، أي: واسعُ العلمِ، لا أولَ لعلمِه، ولا حدَّ له.
و(الحَكِيمُ): على وزنِ فعيل، مِن الحكمة، وهي كمالُ العلمِ، وبلوغُ الغايةِ في حسنِ التدبيرِ والتقدير، وحفظِ الأمورِ، ووضعها في محلّها، وصيانتها مِن الفسادِ والخللِ، وأصلُ الحكمةِ ترجعُ إلى معنَى المنعِ، ومنه الحَكَمَة، للحديدةِ توضعُ في فمِ الدابةِ، تمنعُها مِن النفورِ، فالحكيمُ مِن الناس مَن يمنعُ نفسَه وغيرَه مِن السَّفَهِ والفسادِ والخَلَل.