المنتخب من صحيح التفسير -الحلقة 205- تابع سورة آل عمران

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 الحلقة (205)

 

(وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ)[آل عمران:169-172].

(وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا) الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكل من يتأتى منه الخطاب من أمته (بَلْ أَحْيَاءٌ) بل للإضراب على جملة الظن بأنهم أموات، و(أَحْيَاءٌ) خبر مبتدأ محذوف، بل هم أحياء، والحياة حياة حقيقية، لكن ليست كحياة الدنيا، بل حياة برزخية، ولذا وصفت بأنها حياة خاصة (عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) والآية نزلت في شهداء أُحد([1])، ردًّا على المنافقين، الذين كانوا يتظاهرون باللهفة على مَن مات من إخوانهم من الخزرج.

(فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ) مسرورين بما هم فيه من الرزق والنعيم، الذي تفضل الله به عليهم (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم) ويسرون بأمر آخر، بإخوانهم الذين كانوا معهم في الجهاد، وبقوا أحياء، يفرحون ببقائهم أحياء (مِنْ خَلْفِهِمْ) من بعدهم، لم يمسسْهم سوء، لما في بقائهم من إرهاب العدو، وإعزاز الدين ونصرة أهله، وفي الآية بشارة للأحياء (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) ما بقوا على العهد في نصرة الدين، ووصفوا بما ذكر في الحالِ لتحققه، ودنوهِ منهم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ، لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ)([2])، وأن الشهيد يشفع في سبعين من أهله([3])، وليس أحدٌ يودّ أن يرجع إلى الدنيا ليقتلَ في سبيل الله بعد الموت إلا الشهيد؛ لما يرى مِن الكرامة حين يقتلُ في سبيل الله([4]).

 (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ) بُشِّروا مرتين: الأولى بإخوانهم ورفاقهم في الجهاد، الذين بقوا أحياء من بعدهم، واستمروا على طريقهم في إعزاز الدين ونصرة الحق، يطلبون الشهادة، لم يبدِّلوا ولم يغيروا، ولم ينكصوا على أعقابِهم، ويرتدوا على أدبارهم، مستبدلين الدنيا بالآخرة، والبشارة الثانية لهم أنفسهم، الذين قتلوا في سبيل الله، بشروا (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) التنكير فيهما للتعظيم، بُشِّروا بثواب عظيم، يتنعمون فيه، وبفضل كبير زيادة عليه، من غير حدٍّ ولا عدٍّ، يأتيهم هذا الخير الكثير (مِنَ اللهِ) ليزدادوا غبطةً وسرورًا، وليؤمِّلوا من أصنافه وأوصافه ما لا يخطرُ بالبال (وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) وهذه هدية ثالثةٌ تُهدَى إليهم، يُبشَّرون بها، وإضافة إلى ما خصُّوا به، أجورهم محفوظةٌ مع عامة المؤمنين.

 (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ) صفة مدح للثناء على المؤمنين في قوله: (وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) (اسْتَجَابُوا لِلهِ) لبوا النداء للخروج، ولقاء المشركين حين طلب منهم، و(الْقَرْحُ) الآلام والجراح الجسدية والنفسية (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) صفة أخرى، زيادة في مدحهم، لبيان أن الإحسانَ هو الذي أنزلهم المنازل الرفيعة، وحفظَ لهم الأجر الكريم؛ لأن الذين استجابوا لله والرسول كلهم متقونَ محسنون، فليس الوصف للتقييد.

رُوي أن أبا سفيان وأصحابه لما بلغوا الروحاء وهم قافلون مِن أُحد، ندموا أنهم لم يستأصلوا المسلمين، وهمّوا بالرجوع، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فندبَ أصحابَه للخروج إليهم، فخرجوا إليهم حتى بلغوا حمراءَ الأسد، وكان بأصحابه القرحُ والإعياء، لكنهم تحاملوا على أنفسهم طاعةً لله ورسوله، وأَلقى الله الرعبَ في قلوب المشركين فذهبُوا، فنزلت: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ… الآية)، وبعد انتهاءِ معركة أُحد، قال أبو سفيان يتوعد المسلمين: موعدكم بدر في العام القابل، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم: (إنْ شاءَ الله)، وفي الموعد حاول أبو سفيان إرهابَ المسلمين وتخذيلَهم؛ ليثنيهم عن الخروج في الموعد، فيظهروا أمام العرب بالضعف، فأعطى جعلًا لركبٍ من بني عبد القيس، كانوا بمَرِّ الظَّهْران، متجهين إلى المدينة، وطلب منهم أن يخبروا المسلمين بأن قريشًا جمعوا لهم جيشًا عظيمًا، لا قِبل لهم به، فوافوا المسلمين يتجهزون، فقالوا لهم: أتوكُم في دياركم، فلم يفلتْ منكم أحدٌ إلا شَرِيد، أَفَتَروْنَ أن تخرُجوا وقد جمعوا لكم!! فأخذتِ المسلمين الحميةُ للدينِ، وما زادهم ذلك إلا تصميمًا ومضيًّا في الاستعداد، وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، فانقلبوا بنعمةٍ من الله وفضل، لم يمسَسْهم سُوء، وفي الصحيح عن ابن عباس: (حسبنا الله ونعم الوكيل، قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ قَالُوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا، وَقَالُوا: ‌حَسْبُنَا ‌اللهُ ‌وَنِعْمَ ‌الوَكِيلُ)([5]).

[1]) صحيح مسلم: 4919.

[2]) صحيح مسلم: 4919.

[3]) صحيح ابن حبان: 4660.

[4]) صحيح مسلم: 4919.

[5]) صحيح البخاري:4563.

التبويبات الأساسية