المنتخب من التفسير -الحلقة 315 - سورة المائدة

بسم الله الرحمن الرحيم

 المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 

 الحلقة (315)

 

[سورة الأنعام:3-6]

(وَهُوَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَفِي ٱلأَرۡضِ يَعلَمُ سِرَّكُمۡ وَجَهۡرَكُمۡ وَيَعلَمُ مَا تَكسِبُونَ)(3)

وهو الله مبتدأ وخبر، وضمير هو يعود على الله في قوله (الْحَمْدُ لِلهِ) وصح الإخبار بلفظ الجلالة عن الضمير الذي هو بمعناه؛ لأن الخبر – وهو لفظ الجلالة – معناه الله هو المعبود المنفرد بالإلهية على الحقيقة في السموات وفي الأرض، فالإخبار به لِما أفاده من تضمن هذا المعنى، وليس لمجرد التكرار من باب قول أبي النجم:

أنا أبو النجم وشِعرِي شعري

أي شعري الذي تعرفونه، ومما يؤكد تفرد الله بالإلهية واستحقاقه للعبادة وحده، أنه يعلم سركم وجهركم، ما خفي منكم وما ظهر، قال تعالى ﴿سَوَاۤءࣱ مِّنكُم مَّنۡ ‌أَسَرَّ ‌ٱلقَولَ وَمَن جَهَرَ بِهِ﴾([1]).

وذِكر الجهر بعد السر وإن كان مستغنًى عنه، فإن من علِم السر علم الجهر من باب أولى، فذكرهُ من باب الإعلام والتصريح بإحاطة علمه بكل شيء، فالإطنابُ في مثله محمود، قال تعالى: ﴿وَأَنَّ ٱللَّهَ ‌قَدۡ ‌أَحَاطَ بِكُلِّ شَیۡءٍ عِلمَا﴾([2])، وقوله (وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ) يشمل جميع أحوال القلب واللسان، وما يصدر من الأعمال، ويشمل الخواطر وخفايا الصدور، ولو لم تكن كسبا وعزما، ويشمل أنواع الجهر والسر من الأقوال، ويعلم ما تكسبون من اعتقاد وإيمان، ومن مطلق العمل، سواء كان بالقلوب أو بالأركان، وهذا الشمول والعموم هو ما دل عليه الإبهام المستفاد من (ما) في قوله (مَا تَكْسِبُونَ).

(وَمَا تَأتِيهِم مِّن ءَايَةٖ مِّن ءَايَٰتِ رَبِّهِم إِلَّا كَانُواْ عَنهَا مُعرِضِينَ)(4)

الضمير في (تَأْتِيهِمْ) يعود على المشركين، الذين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم، وهو التفاتٌ من الخطاب المتقدم الموجه للمشركين عامة في قوله (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) إلى الغيبة في قوله (وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ)، المعنيِّ به من كذب النبي صلى الله عليه وسلم خاصة.

والآية في قوله (مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ) نكرة تفيد العموم وأصلها العلامة، وهي هنا مستعملة في الدليل والمعجزة، وفي الآية القرآنية، وتأكد العموم بدخول مِن على النكرة، فتستغرق جميع المعجزات الدالة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهي الآيات القرآنية، والآيات الكونية، وخوارق العادات التي أجراها الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم، كنبع الماء من بين أصابعه، وانشقاق القمر، وحَنينِ الجِذعِ، ونحو ذلك، وقوله (إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ) أي ما تأتيهم من معجزة دالة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم إلا كانوا لها تاركين، فالإعراض الانصراف عن النظر في الآيات وتركها، ومنه عدم سماع القرآن، والتسارع إلى التكذيب بالمعجزات الأخرى دون نظر فيها، ووصفها بأنها سحر، وبأن القرآن أساطير الأولين.

فما تأتيهم وتظهر لهم معجزة من المعجزات في جميع الأحوال، إلا تركوا النظر فيها، ولم يلتفتوا إليها، فالاستثناء من عموم الأحوال، أي ما تأتيهم من آية في أي حال من الأحوال، إلا كانوا منها على حال الإعراض والتكذيب، وجملة (كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ) تفيد معنى زائدًا على مجرد (إلا أعرضوا عنها) بما أفادته (كان) من التحقق والثبوت، وبما أفاده اسم الفاعل (مُعْرِضِينَ) من التجدد والاستمرار؛ لأن اسم الفاعل كالفعل المضارع في الدلالة على التجدد والدوام، فهم مستمرون في الإعراض.

(فَقَدۡ كَذَّبُواْ بِٱلۡحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمۡ فَسَوۡفَ يَأۡتِيهِمۡ أَنۢبَٰٓؤُاْ مَا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ)(5)

الفاء في قوله (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ) للسببية، فإن ما قبلها وهو الإعراض عن المعجزات سبب لما بعدها وهو التكذيب، والمعنى أنه بسبب إعراضهم عن النظر في الآيات، حصل لهم التكذيب بجملة الحق؛ القرآن، وما جاء به الإسلام، وقوله (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) معطوف على (فقد كذبوا) والمعنى: أنهم كذبوا، وبسبب تكذيبهم سوف يأتيهم الوعيد الشديد، والتحذير من عاقبة الاستهزاء، التي ستحل بهم وكانوا بها يستهزئون، فدخول (سوفَ) على (يأتيهم) لتأكيد حلول العذاب بهم ومجيئه، عذاب الدنيا بالهزيمة والخذلان، وفي الآخرة بعذاب النار، و(الأنباء) جمع نبأ، وهو الخبر المهم، وإضافة (أنباء) إلى قوله (مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) بيانية، والاستهزاء التكذيب مع استخفاف وسخرية.

(أَلَم يَرَواْ كَمۡ أَهلَكنَا مِن قَبلِهِم مِّن قَرنٖ مَّكَّنَّٰهُم فِي ٱلۡأَرۡضِ مَا لَم نُمَكِّن لَّكُم وَأَرسَلنَا ٱلسَّمَآءَ عَلَيهِم مِّدرَارٗا وَجَعَلنَا ٱلأَنهَٰرَ تَجرِي مِن تَحتِهِم فَأَهلَكنَٰهُم بِذُنُوبِهِم وَأَنشَأنَا مِنۢ بَعدِهِمۡ قَرنًا ءَاخَرِينَ)(6)

جملة (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) كالدليل والبرهان عما قبلها، في حلول العذاب بالمستهزئين، أي إن كانوا في شك عليهم أن يعتبروا بما قبلهم من القرون التي أهلكها الله بسبب تكذيبهم، مكن الله لهم في الأرض ما لم يمكن لأهل مكة فكانوا أقوى منهم، وجعل الله لهم مكانا ودولة، وتم التمكين لهم بإمدادهم بأسباب القوة والسيطرة، والثبات والهيبة.

ثم ذكر الله بعض ما امتن به عليهم من الخيرات الوافرة الكثيرة الأخرى فأرسل وأنزل عليهم الأمطار هطالة غزيرة، وأجرى الله لهم بالمطر الأنهار والوديان، ونبعت العيون، وفاضت عليهم به الخيرات، وخصِب المكان، فاستقام لهم التمكين على أحسن وجه، ولكنهم استؤصلوا وأخذهم العذاب بكفرهم وتنكرهم بالنعم، وفي ذكر التمكين لهم وإنزال الخيرات والبركات عليهم، إشارةٌ إلى أنَّ تنكرهم لهذا التمكين بعبادة غير الله هو سببُ هلاكهم.

وفي الآية تحذيرٌ للمشركين المتقدمِ ذكرهم، ولكل من يسلك مسلكهم ويعمل عملهم في كل الأزمان، سواء كانوا من الكفرة أو من المسلمين، بأنّ من أهلكَهم الله قبلهم من القرون الماضية كانوا أشدّ منهم قوة، وأكثر بأسًا، وأوسع حضارةً وملكًا، فلا يغرهم ما هم عليه من بأس وقوة، وما عليه المسلمون في أول دعوتهم من ضعف وكذلك من سار على سيرهم.

والاستفهام في قوله (أَلَمْ يَرَوْا) إنكاري، والرؤية علمية، والخطاب للمشركين، و(كَمْ) اسم استفهام مبهم مفعول لأهلكنا، يدل على كثرة غير محدودة، وتحتاج (كَمْ) إلى تمييز يُبين إبهامها، وقوله (مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) تمييز وبيان للكثرة التي دلت عليها (كَمْ) بأنها من القرون الماضية، والتمييز دخلت عليه (مِنْ) في قوله (مِنْ قَرْنٍ) لتأكيد نوع هذه الكثرة، وتصلح فيه (مِنْ) أن تكون بيانية أو للتبعيض أيضاً.

ومِن في (مِنْ قَبْلِهِمْ) ابتدائية، والضمير يعود على كفار مكة، والقرن يطلق على الجيل وأهل العصر الواحد، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)([3])، فالقرون الثلاثة المشهود لهم بالخيرية في الحديث، هم الصحابة والتابعون وأتباعهم، ويطلق القرن على مقدار من الزمن يقدر بمائة سنة، وقيل غيرُ ذلك.

وقوله (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) جواب سؤال مقدر، كأنّ قائلا قال: ماذا كان حالُ تلك القرون التي أهلكها الله؟ فقيل (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ).

و(مَا) في قوله (مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) يصح أن تكون موصولة، صفة لموصوف محذوف منصوب على المصدرية، أي مكناهم التمكينَ الذي لم نمكنه لكم يا أهل مكة، أو نكرة موصوفة، مكناهم تمكينًا لم نمكنه لكم، والضمير في قوله (لَكُمْ) للكفار، والضمير في مكناهم يعود على (مِنْ قَرْنٍ)؛ لأن معناه الجمع وإن كان لفظه مفردًا.

وقوله (وَأَرْسَلْنَا) أي أنزلنا، و(السَّمَاءَ) المطر، و(مِّدرَارًا) أي هطّالًا بغزارة، مبالغة من الدَّر، وأصل الدر نزول اللبن من الضرع، وقوله (فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) من الهلاك والفناء، والباء في (بِذُنُوبِهِمْ) للسببية، والفاء في (فَأهْلَكْنَاهُمْ) للتعقيب، أي أن التمكين الذي حصل لهم لم يدم لهم، سرعان ما أعقبه الهلاك بسبب تكذيبهم وإعراضهم، وقوله (بِذُنُوبِهِمْ) أي بكفرهم.

ومعنى (وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ) أوجدنا من بعد تلك القرون الظالمة الهالكة، التي مكنَّا لها، قرنا آخرين، أي: بعد كل قرن من القرون الهالكة، أوجد الله قرنا آخرين، كما أهلك عادًا وثمودًا وقارون وفرعون وهامان،ولفظ القرنِ وإن كان مفردًا فمعناه الجمع، ولذلك وصف بالجمع في قوله آخرينَ، كما قال عنه قبل ذلك (مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ) بالجمع.

 

[1])    الرعد: 10.

[2])    الطلاق: 12.

[3])    البخاري:3651، ومسلم:2533.

التبويبات الأساسية