المنتخب من التفسير -الحلقة 256- سورة النساء

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 الحلقة (256)

[النساء:104-109].

 

(وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)[النساء:104].

(وَلاَ تَهِنُواْ) لا تضعفوا (فِي ابْتِغَآءِ) مِن بغَى المتعدّي، بمعنى طَلَب، لا تَضعفوا ولا تتهاونوا في طلب العدو ومبادرته، حتى يؤدي بكم الضعف إلى أن يكون هو المتغلب الذي يطلبكم (إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ) مما يصيبُكم من الشدة والمكابدة في طلبه (فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ) ما يصيبُكُم مِن الشدةِ في طلبِ العدوّ، كالخوفِ والجراح، والتعرض للقتل، والحرّ والبرد، وغير ذلك، أنتمْ فيه والعدوّ سواء، هم مثلُكم في هذا الشأن، يصيبهم منه ما أصابكم، لكن الذي اختصَّكم وفضلكم الله به على عدوكم، أنّكم (تَرْجُونَ مِنَ اللهِ) الشهادةَ إن قُتلتم، والأجرَ إن سلمتم، ونصرة الدين وإظهار الحق على أيديكم، وهذا ليس لعدوكم منه شيءٌ، فعلى كل الاحتمالاتِ المجاهدُ يكون من الفائزين، إن قُتل حصلتْ له الشهادة، وإن رجعَ كان غانمًا مأجورًا، قال تعالى: (وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)([1]).

(إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا)[النساء:105].

الباء (بِمَا أَرَاكَ اللهُ) باء الآلة، أي بالوسيلةِ التي عَرَّفك الله، ما أوحى به إليك، فرأى بمعنى عرف، تنصب مفعولًا واحدًا([2])، أو أن الرؤية في قوله (بِمَا أَرَاكَ) بصرية، على معنى: لتحكم بما عرَّفَك الله من الحق المعرفة الكاملة، حتى كأنك تراه وتبصره، فلا تخطئ فيه (وَلَا تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا) عُطف على (إِنَّا أَنزَلْنَا) بتقدير: إنَّا أنزلنا إليك الكتاب بالحق، وقلْنا لك (لَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) والخطابُ في (وَلَا تَكُن) وفي قوله (وَلَا تُجَادِلْ) الآتي للنبيّ صلى الله عليه وسلم، والمعنيّ به أُمته، كما في قوله تعالى: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ)([3]) ونحوه؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لا يصدرُ منه ذلك، واللام في قوله (لِلْخَآئِنِينَ) للتعليل، وليست صلةً؛ لقوله (خَصِيمًا) أي: لا تخاصِم لأجلِهم، أو اللام بمعنى عن: لا تكن عن الخائنين خصيمًا، أي: وكيلًا تجادلُ وتدافعُ عنهم، وسببُ نزول الآيةِ: أنّ أحدَ أبناء بني أُبَيرِق، طعمة أو غيره، وهم من بَني ظَفر مِن الأنصار، وكان منافقًا، نَقبَ خزانةً لقتادةَ بن النعمان، فسَرقَ جِرابَ دقيقٍ به درعٌ، وعندما علمُوا به أخفاهُ في بيتِ اليهوديّ زيد بن السّمين، فوُجد الدرعُ في بيتِ اليهودي، فقال اليهود: إن الذي سرقَه هو ابن أُبيرق، فاجتمع قومُ ابن أُبيرق من الأنصار، وقالوا  لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قتادة عَمِد إلى أهل بيتٍ فيهم إيمانٌ وصلاحٌ، واتهمَهم بالسرقةِ، وسألوه أن يجادلَ عن صاحبِهم، وقالوا له: إن لم تفعل برِئ اليهودي، وافتضِح أمرُهم، فهَمَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعلَ، ويبرئهم؛ لأنَّ مقتضَى الظاهرِ هو ما قالوه: المسروقُ لدى اليهودي، ولا بينةَ على دعوى قتادة، الذي سُرق منه الدقيق والسلاح، فنزلتِ الآية (وَلَا تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا)([4]) إلى آخر الآياتِ([5]). فبينَ القرآنُ أنَّ السارقَ هو بيتُ الأبيرق، وإنْ حاولوا أنْ يخفوا الجريمة، وفي هذا تحذيرٌ لمن يتولونَ الدفاع عن المجرمِ، مع علمِهم أنه مذنبٌ سارقٌ، أو قاتلٌ، أو مرتَشٍ، ويترافعونَ عنه في المحاكمِ؛ يرغُونَ ويزبِدُونَ طالبينَ تبرئَتَهُ، ويعلمونَ أنّه جانٍ، مقابلَ ما يؤخذُ منه مِن أموالٍ، فهؤلاءِ داخلُون في قولِ الله تعالى (إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا).

(وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا)[النساء:106-107].

(وَاسْتَغْفِرِ اللهَ) طَلبُ الاستغفار من النبي صلى الله عليه وسلم، أي استغفرْ مما هممتَ به، ولو لم يقعْ، وطلبه مِن غيره لِمَا وقعوا فيه، مِن محاولة تبرئة صاحبهم (وَلَا تُجَادِلْ) من المجادلة، وهي المناصرة والمدافعة عن الخصم بالحجة؛ لتقوية جانبه، كما هو الحال في مهنةِ المحاماةِ في وقتنا الحاضر (يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ) يخونونَ غيرَهم ويخدعُونهم، وجُعلت خيانتُهم للغير خيانةً لأنفسهم، في قوله (يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ) إمَّا لأنّ عاقبتها تكونُ خَبَالًا ووبالًا عليهم، كما في قوله تعالى: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ)([6])، وإما لأنّ خيانةَ الغير يجبُ أن تستشعرَ في ثقلها وسوءِ فعلها كخيانةِ النفسِ، ومنه قوله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)([7])، وقوله: (فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ)([8])، فجعل مَن يتعدى على الغيرِ كمَن يعتدِي على نفسِه، ومن يُسلِّم على أخيه، فكأنما يُسلِّم على نفسه (إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا) خوّانًا مبالغةٌ مِن الخيانة، وأثيمًا مبالغةٌ من الإثم، والإثم: الذنبُ الذي يستحقُّ العقابَ، فالله لا يحبُّ مَن كان هذه صفته.

(يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا)[النساء:108].

(يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ) يتسترونَ من الناس، ويخافونَهم، فلا يجرؤونَ على المعاصي والمنكراتِ إذا خافُوا أن يراهم الناس؛ حذرَ اللوم (وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ) الجملة حالية، تفيدُ غايةَ ذمِّهم وقبح فعلهم، يخافونَ من الناس، والحالُ أنهم لا يستحيونَ ولا يخافون مِن الله (وَهُوَ مَعَهُمْ) والحال أنه بعلمِه المحيط معهم، مطلع عليهم، لا تخفى عليه خافيةٌ، وَلا يستحيونَ منه (إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ) الظرف (إِذْ يُبَيِّتُونَ) متعلقٌ بقوله (وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ) ويُبَيِّتُونَ: يُدبرون ويَكيدون لغيرهم ما لا يَرضاه الله، مِن المكر وقولِ الزورِ والكذب، واتهامِ البريء، والحلفِ الفاجر، وما شابه ذلك مما لا يرضاه اللهُ من أقوالهم، والجدال عن الخائنين وأهل الإجرام، ويدخلُ فيه: ما قاله جماعةُ ابن أُبيرق من الزُّور في تبرئةِ صاحبهم، وفي حكمهم مَن يفعل فعلهم في تبرئة الظلمة، والدفاعِ عنهم، وقد تقدمَ معنى التبييتِ في قوله تعالى: (فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ)([9]) (وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا) ومَن كان علمه محيطًا، فيجب الحذرُ من عقوبته؛ لأنّ أكثر ما يعوِّل عليه مرتكبُو الإثم والجرائم الإنكار، وأخشَى ما يخشونَه الاطلاع عليهم، وافتضاح أمرهم، وإحاطةُ الله بما يعملونَ معناها افتضاحهم، واليأس مِن النجاةِ بالكذبِ أو الزور.

(هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا)[النساء:109].

الخطابُ في (هَا أَنتُمْ)  لكلِّ مَن يتأتَّى منه الخطاب، ويدخل فيه دخولًا أوليًّا جماعة ابن أُبيرق، الذين جادلوا عن تبرئة صاحبهم، وزوَّرا الكلام فيه بكل ما أمكنَهم، والوكيل: المُوكلة إليه الأمور وحِفظها وحمايتها، ومنه سمي الوكيل بالخصومة محاميًا، و(هَا) حرف تنبيه، و(أَنتُمْ) ضميرُ خطاب مبتدأٌ، و(هَؤُلَآءِ) اسمُ إشارة خبرُه، واستعمال اسم الإشارة هنا للتوبيخ والتعجيبِ من حالهم، فهو يتضمنُ وصفَهم الذي هم عليه، أي: ها أنتم هؤلاء المجادلونَ الخائنونَ لأنفسهم، وبذلك صحَّ الإخبار به عن المبتدأ، والحمل عليه، فبدونِ تقديرِ هذا الوصفِ، لا تحصلُ الفائدة مِن الجملة؛ إذْ لا فائدة من الإخبار عن الضمير بالإشارة دون تقدير، كأن تقول: أنت هذا؛ لأنهما بمعنى واحدٍ (جَادَلْتُمْ) بيانٌ لفعلهم الذي استحقوا عليه الذم، وهو جدالهم عنهم بالباطل، وذكر الظرف لجدالهم وهو قوله (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) لتهوينِ شأنِ ما أملوه منه، فهي مصلحةٌ عاجلةٌ في الدنيا؛ من مالٍ، أو حميةٍ وعصبية، سرعانَ ما تنقضي، ويعقبها الندم (فَمَن يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ) استفهامٌ للتعجيب مِن حالِ مَن يجادلُ عن أهلِ الباطل، يتضمن الوعيدَ لهم ولأمثالهم، أي: يا مَن تجادلونَ عن الظالمين؛ ما أعددْتم لمن تجادلونَ عنهم، ولأنفسكم مِن دفاعٍ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) يوم تُبلى السرائر، ولا تكتمونَ الله حديثًا، ولا ينفع منكم ولا منهم زيفٌ ولا تزويرٌ (أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا) (أَم) للإضراب، بمعنى (بَلْ)، و(مَن) للاستفهام الإنكاري التوبيخي، والمعنى: مَن سيجادلُ عنهم يوم القيامة؟ بل مَن هو القادرُ على أن يكونَ يومئذٍ وكيلًا بالخصومةِ عن أحدٍ، وليس أحدٌ إلَّا ويقولُ من شدة الهول: نفسِي نفسِي؟ فلا يجدُ الظالمُ ولا محاميهِ في القيامةِ نصيرًا.

 

[1]) النساء:74.

[2]) أراك بتعديتها بالهمزة نصبت مفعولين؛ أحدهما محذوف، وهو الضمير العائد على الموصول، تقديره: بما أراكه الله.

[3]) الزمر:65.

[4]) الترمذي:3036.

[5]) المستدرك للحاكم:8376، وقال: صحيح على شرط مسلم.

[6]) التوبة:36.

[7]) النساء:29.

[8]) النور:61.

[9]) النساء:81.

التبويبات الأساسية