بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (190)
(وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلَا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[آل عمران:121-123].
هذه الآية في شأن غزوة أحد، وكانت أُحُد في شوال من السنة الثالثة، خرجت فيها قريش وأحلافها للثأر من المسلمين ببدر، ونزلوا على مشارف المدينة عند جبل أحد، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في الخروج إليهم، أو البقاء داخل المدينة، والتحصن بها، فقال له ابنُ أُبَيّ المنافق مع كثير من الأنصار: أقمْ يا رسول الله بالمدينةِ، ولا تخرج إليهم، فو الله ما خرجنا منها إلى عدوٍّ إلا أصابَ منا، ولا دخلَها علينا إلا أصبْنا منه، فكيفَ وأنت فينا؟ فدعْهم، فإنْ أقامُوا أقاموا بشرِّ مَحْبس، وإن دخَلُوا قاتلَهم الرجال، ورَماهُمُ النساءُ والصبيان بالحجارة، وإن رجَعُوا رجعوا خائبين، وقال آخرون ممن لم يحضروا بدرًا واستشهدُوا في أحد: بل نخرج إليهم نقاتلهم، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأي مَن أشاروا إليه بالخروج من المدينة، فدخلَ ولبس لَامَة الحرب (الدِّرْع) ولما رجعَ لهم قالوا: الأمر إليك، فإنْ أردتَ الخروج خرجنا، فقال لهم: (إِنَّهُ لَيْسَ لِنَبِيٍّ إذا لَبِسَ لَامَتَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يُقَاتِلَ)([1]).
والواو في (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ) للعطف، من عطف الجمل، والظرف (إِذْ) متعلق بفعل محذوف، تقديره: واذكر، وغَدَوْتَ مِن الغدُوّ، وهو الخروج بالغَداة، أول النهار، خلاف العَشِي، ومِن للابتداء، أي ابتداء خروجك من أهلك كان أول النهار، والأهل: الزوجة، وخروجه كان من بيت عائشة رضي الله عنها، وخرجَ النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين بعد أن صلى الجمعةَ إلى أحد.
وقوله: (تُبَوِّئُ) أي تختار للجيش موقعه لمواجهة العدو، وتصفّه للقتال، وأصله من البَوء: وهو الرجوع للمكان، والمَقَاعِد جمع مقعد: الموضع الذي يقاتلون منه العدو، وكان جيش المسلمين في أُحد سبعمائة، خذلهم عبد الله بن أُبي المنافق فرجع بثلث الجيش، وقال: علامَ نقتلُ أنفسَنا وأولادنا؟! فتبعهم عمرو بن حزم الأنصاري ليثنيَهم ويردَّهم([2])، وقال: أنشدكم الله والإِسلام في نبيكم وأنفسكم، فقال عبد الله بن أُبي: لو نعلم قتالًا لاتبعناكم، أي: ليس هذا قتالًا، وإنما إلقاء بالنفس إلى التهلكة حسب قوله، فهمَّ بنو سلمة وبنو حارثة باتباعه، فعصمهُم الله، ورجع ابن أُبي، ومضوا هم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قوله تعالى: (إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلَا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) كما في البخاري، فقالوا – أي بنو سلمة وبنو حارثة – : ما يسرُّنا ألَّا تكونَ نزلَتْ فينا؛ لأنّ الله تعالى قال: والله وليهما([3])، وقوله: (مِنْكُمْ) يدلُّ على أنهم من المسلمين لا من المنافقين، وجيش المشركين كان ثلاثة آلاف، وقتل من المسلمين سبعون، ومن المشركين واحد وعشرون، فقال أبو سفيان، وكان على جيش المشركين: أعلُ هبل، يومٌ بيوم بدر، والحرب سجال، وسبب محنة المسلمين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل في عُدْوة الوادي – أي جانبه – وسوَّى الصفوف، جعل ظهره وظهر عسكره إلى أحد، وأَمَّر عبد الله بن جبير بن النعمان على الرماة، وقال: (إِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخْطَفُنَا الطَّيْرُ فَلاَ تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ هَذَا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا هَزَمْنَا القَوْمَ وَأَوْطَأْنَاهُمْ، فَلاَ تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ)([4])، ولكن الرُّماةَ أولَ ما رأوا الكفةَ رجحت للمسلمين، تركوا أماكنهم، وانشغلوا بجمع الغنائم، فانكشف ظهر المسلمين، والتفَّ عليهم العدو، ووقعَ للمسلمينَ ما وقعَ.
(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) بعد أن قصَّ اللهُ طَرفًا مِن يومِ أُحد، وهو يومٌ امتُحن فيه المسلمون لمخالفتِهم أمرَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ذكّرهم الله بنصره وتأييدهِ لهم يومَ بدر، حتى يأخذوا العبرة، ويستفيدُوا من الدرسِ، ولا تنكسرَ نفوسُهم، وتضعف همَمُهم، ذكرهم بيوم بدرٍ، يومَ أن كانوا ضِعَافًا مضطهدين، قليلي العدَدِ والعُدّة، ومع قلّتِهم مكّنهم الله من عدوّهم، بالإطاحة برؤوس الكفر، وعلى رأسهم أبو جهل، وبَدْر: أصله بئر ماء، سميت باسم صاحبها، ثم صار علمًا على الموضع المعروفِ، بين مكة والمدينة (وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) ضعافٌ مضطهدون، والجملة حالية، وفي الإتيان بجمع القلة (أَذِلَّةٌ) ما يشير إلى قلة عددهم مع ضعفهم (فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) اتقوا الله بالثبات والصبر على القتال، والطاعة والاستقامة، وتعظيم الله، والخوف منه عند اللقاء، وأشكروه على تأييده وتثبيته لكم، وجملة (فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) اعتراضية.
[1]) مسند الإمام أحمد: 14787، والمنتقى لابن الجارود: 1061.
[2]) في الرحيق المختوم هو عبد الله بن حرام.
[3]) صحيح البخاري: 3039.
[4]) صحيح البخاري: 4051.