بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (214)
سورةُ النِّسَاء
بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1].
سميت هذه السورة بسورة النساء؛ لتضمنها كثيرًا مِن أحكام النِّساء، في النكاح والطلاق، والميراث، وحقوق النساء، والعلاقة بينهنَّ وبينَ الأزواج، ونزلَ العديدُ من آياتها بعد الهجرة بمدةٍ طويلةٍ، ففيها آيةُ التيمم، نزلتْ في غزوة المريسيع([1]) في السنة السادسةِ، وجاء عن ابن عباس أنها نزلت بعد الممتحنة، والممتحنةُ فيها قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ)([2]) نزلت بعد صلح الحديبية في السنة السادسة، وفي سورة النساء أيضًا الكلالة، وهي مِن أواخرِ ما نزل مِن القرآن.
وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها: (وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ)([3])، وزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة كان في شوال، مِن السنة الأولى مِن الهجرة، والبقرة أولُ سورةٍ نزلت بعد الهجرة، ونزلَ بعدها الأنفالُ وآلُ عمران، وسور أخرى قبلَ سورة النساء، ولمّا كانَ القرآنُ نزل منجّمًا كما قال تعالى: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا)([4])، فقد ينزل بعض السورة في وقتٍ، وينزل بعضُها في وقت آخر، حسبَ المناسبات؛ فلا إشكالَ فيما ورد في نزول آياتها في سنواتٍ متعددة.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) كان الامتنانُ في افتتاح السورة بخلقِ أصلِ الإنسانِ آدمَ عليه السلام وخلق زوجه منه، ثمّ بتكاثرِ الخلائقِ وتزاوجِها، وأصلُ ذلكَ كله مِن نفسٍ واحدةٍ، وافتُتحتِ السورةُ بنداءٍ للناسِ كافةً، ولم يخاطَبِ المؤمنونَ خاصةً، وإن كانت السورةُ مدنيةً؛ لأنّ هذا الامتنانَ بالخلقِ والتزاوجِ يشتركُ فيه أهلُ مكةَ والنَّاسُ جميعًا معَ المؤمنينَ، ولا يلزمُ من الخطابِ بـ(يَا أَيُّهَا النَّاسُ) أن تكونَ السورة مكيةً، وإنما يكفِي لأمرِ الناسِ بالتقوَى جميعًا، أن يكونَ خطابُ أهل مكةَ مقصودًا مع خطابِ المؤمنين في المدينة، والأمر بالتقوى هنا أمرٌ بالشكر على النعم المتقدمةِ، ولذا جاءَ معه وصف الربوبية، الذي يرجعُ إلى العنايةِ بالمربوبِ والإنعامِ عليه، بخلافِ الأمر الثاني بالتقوى الذي اقترنَ بالألوهية في قوله (واتَّقُوا اللهَ)؛ فالتقوى فيه بمعنَى الخوفِ مِن التعدي على محارمِ الله، و(مِنْ) في قوله (مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) للابتداء، أي: ابتداءُ خلقهم مِن آدم عليه السلام.
(وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) أي وخلق من النفس الواحدة زوجها، ويقال للمرأة زوج وللرجل زوج، فكل واحد منهما بالإضافة للآخر أو بانضمامه إليه زوج، كما قال تعالى: (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ)([5])، والمعنى خلقكم جميعا من آدم، وخلق من آدم زوجه حواء، فالعطف فيه مغايرة من معنى ما قبله بزيادة تفصيل وتكميل، كما في قوله: (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ)([6]).
وقد خلقَ الله تعالى حواء مِن آدم، من قطعة من ضلعِهِ، كما ثبتَ في الصحيح([7]) فـ(مِن) في قوله: (مِنْهَا زَوْجَهَا)([8]) تصلح أن تكونَ للتبعيض، وأن تكونَ للابتداء.
(وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا([9]) وَنِسَآءً) ثم بثّ ونشرَ من تزاوجهما بالتناسلِ رجالًا كثيرًا ونساءً، والمراد بالرجالِ والنساءِ الذكور والإناث، لا خصوص البالغين، كمَا يتبادرُ مِن لفظِ الرجالِ والنساءِ، وعبرَ عنهم بالنساءِ والرجالِ؛ لأنّ الأمرَ بالتقوَى في معرضِ التكليفِ، فلا يناسبهُ الصبيان، وقوله (وَنِسَآءً) أي: كذلكَ بثَّ منهما نساءً كثيرًا، وحذفَ من الثاني لدلالةِ الأولِ عليه، مِن بابِ الاكتفاء؛ إذ يلزمُ من كثرةِ الرجالِ كثرةُ النساءِ بالأوْلى، وفي أشراطِ الساعةِ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (… وَتَكْثُرَ النِّسَاءُ، وَيَقِلَّ الرِّجَالُ، حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ)([10]).
ولمّا امتنَّ اللهُ بأصلِ الخلق، ثم امتنّ بما هيأَ لهذا الخلق مِن التزاوجِ، الذي هو نواةُ الأسرة، ثم امتنَّ ثالثًا بما تولدَ عن ذلك من التكاثر، أعادَ الأمر بتقوى الله؛ ليخافوهُ ويراعُوا حرماتهِ، فيتناصفُوا ولا يتظالمُوا، فقال:
(وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ) فعطفَ على الأمرِ بتقوَى الله – الذي يتساءلُ الناس به، يعظمونَهُ، ويقسمونَ به على حاجاتِهم، عندما يسألُ بعضُهم بعضًا – التقوَى في الأرحامِ، وقرنتْ بالأمرِ بتقوَى اللهِ تعالى؛ اهتمامًا بها، واتقاءُ الأرحامِ اتقاءُ حقوقِها مِن الصِّلة والإحسانِ أنْ تُنتهكَ، وأنْ لا تعرضَ للقطيعةِ؛ حفاظًا على كيانِ الأسرةِ ليسلَمَ بناؤُها، و(الأَرْحَامَ) بالنصبِ، عطفًا على اسمِ الجلالةِ، على معنى: اتقوا اللهَ، واتقوا الأرحامَ، وقرئ (الأَرْحَامِ) بالجرّ، عطفًا على الضمير المجرور مِن غير إعادةِ الجار، على معنى: اتقوا اللهَ الذي تساءلونَ بهِ وبالأرحامِ، التي هي أيضًا تساءلون بها في قضاءِ الحوائجِ، مِن مثل قولهم: ناشدتُكَ اللهَ والرحمَ.
وفي البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ)([11])، وصحّ عنه صلى الله عليه وسلم أيضًا قوله: (الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَقُولُ: مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللهُ، وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللهُ)([12]).
(إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) الرقيب: الحافظُ المطلعُ، ومنه المِرْقب: المكان العالي الذي يراقبُ مَن تحتَه، فالحفظُ يكونُ لمن اتقى الله، واتقى الرحم، والرقابة والمحاسبة لمن لم يتقِ اللهَ ولا الرحمَ.
[1]) وتسمى غزوة بني المصطلق.
[2]) الممتحنة:10.
[3]) البخاري:4707.
[4]) الإسراء:106.
[5]) البقرة:35.
[6]) إبراهيم:6.
[7]) أخرج البخاري في صحيحه: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلعِ أَعْلَاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ) [3331].
[8]) النساء:1.
[9]) (كَثِيرًا) مفردٌ، جاء صفةً لـ(رِجَالًا) وهو جمع؛ لأنه على وزن (فَعِيل) يستوي فيه المفرد والجمع، والمذكر والمؤنث.
[10]) البخاري:81.
[11]) البخاري:5638.
[12]) مسلم:2555.