بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (235)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ)[النساء:43].
(لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَاةَ) لا تقوموا إلى الصلاة، وعبر عن القيام لها بالقرب منها؛ ليدل على أنه يجبُ عليهم أن يتجنبُوا الشرابَ قبل القيام إليها بوقت كافٍ، لا أنهم لا يمتنعونَ منه إلّا وقتَ القيامِ إليها؛ إذ المقصودُ من النهيِ في هذه الآية منعُ آثاره، لا خصوص شُربِه، بدليلِ قوله (حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) فالآية نهتْ عن شرب الخمر وقت القيام للصلاة، أو قريبًا من ذلك (سُكَارَى) جمع تكسير، واحده سَكران، والسَّكران من السَّكْر بفتح وسكون، وهو الغلقُ والانسِداد؛ لأنّ السكرانَ ينغَلقُ عليه أمرُه، فلا ينضبطُ ما يصدرُ منه، ومنه سكْر الباب غلقه، قال تعالى: (لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا)([1]) أي: أُغلِقت وانسدّت، وجملة (وَأَنتُمْ سُكَارَى) حالية، دلتْ على أن محلَّ النهي مقارنةُ السّكْر للصلاة، بغضِّ النظر عن اتصافِ صاحبِ الحال بمضمونِ الصفةِ، أو عدمِ اتصافِه بها، في غير ذلكَ الوقت.
فقولك: جاءَ زيدٌ، وقد طلعتِ الشمسُ، لا يدل على أكثر من المقارنة، مقارنة مجيئه مع الطلوع، أما الحال المفردة فهي صفةٌ في المعنى لصاحبها في تلكَ الحال، مثل قولك: جاءَ زيدٌ راكبًا، أو ضاحكًا، ولذا قالوا: من قال في النذر: لله عليّ أن أعتكف وأنا صائمٌ، فقد نذر مقارنة الصوم للاعتكاف، فعلى أي وجهٍ تحققتْ مقارنة الصوم كان موفيًا للنذر، سواء كان الصومُ صومَ رمضان، أو صومًا خاصًّا بالاعتكاف؛ لأن الجملة الحاليةَ لا تدلُّ على أكثرَ مِن المقارنة، ولو قال: لله عليَّ أن أعتكفَ صائمًا، لصار الصوم صفةً للمتكلم، فيكون داخلًا في النذر، ولا يتأدَّى باعتكافهِ في رمضان، بل يحتاجُ إلى صوم يخصُّ الاعتكاف.
ولتمكُّن الخمر مِن حياة العرب في الجاهلية، حرَّمها الله تعالى عليهم بالتدرج؛ تأليفًا لهم، فقد نزلَ أول ما نزل في الخمر: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ)([2])، فانتهى أناس لِمَا ذكرَ اللهُ فيها من الإثم الكبير، وقال قومٌ لشدةِ تعلقهم بها: إنّما نشربُها لمنافعِها، لا لإثمِها، ولا نتركها حتى يُبيِّن الله لنا فيها بيانًا شافيًا، وكان مِن عقلاء الصحابة مَن لم يشرب الخمرَ حتى في الجاهلية، منهم: الصديق، وعثمان بن عفان، وعثمان بن مظعون رضي الله عنهم.
ثم بعد آية البقرة نزلتْ هذه الآية، وروى الترمذي في سبب نزولها، أنّ عبد الرحمن بن عوف صنعَ مأدبةً لبعض أصحابِ النبي صلى الله عليه وسلم، وصلى بهم عليٌّ رضي الله عنه، فقرأ سورةَ الكافرون، فقال: ونحن نعبدُ مَا تعبُدُون، فنزلت الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى)([3])، فزاد التضييقُ عليهم فيها، وانتهى عنها آخرونَ، وبقي مَن يشربها في غير وقتِ الصلاة، ثم نزلتْ آية المائدة: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ)([4]) إلى قوله: (فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ)([5])، فكان هذا هو البيانَ الشافيَ في الخمر، وقالوا: قد انتهينا، وأراقُوا جِرارَ الخمرِ في طرقاتِ المدينة، وكانت الحكمةُ من هذا التدرجِ في تحريم الخمرِ، ما ذكرتْه عائشةُ رضي الله عنها: (ولَو نَزَلَ أوَّلَ شَيءٍ: لا تَشْرَبُوا الخَمْرَ، لَقالوا: لا نَدَعُ الخَمْرَ أبَدًا)([6]) لأنهم لشدةِ تعلقهم بها كان أشدَّ شيءٍ عليهم تركُها، قال أنس رضي الله عنه: “حُرّمت الخمر، ولم يكنْ يومئذ للعرب عيشٌ أعجبَ منها، وما حُرم عليهم شيءٌ أشدّ عليهم مِن الخمرِ”.
وقوله (حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ) غايةٌ للنهي عن الصلاة حالَ السّكر، ينتهي بأنْ يعلمَ الشاربُ ما يقول، فإذا علمَ ما يقولُ وجبَ عليه أن يصلي، والمراد علمُه بما يصدرُ عنه مِن قولٍ وفعلٍ، وعَبَّر عنه بالقول لأنه سببُ النزولِ، ولأنّ الخطأَ فيه قد يؤدِّي إلى الكفر، بخلافِ الخطأ في الأفعالِ، أو لأنّ ضبطَ المصلي لِمَا يقولُ يستلزمُ ضبط أفعالِه مِن باب أولى، وتحريمُ الخمر وقتَ الصلاةِ استدعى مزيدَ التضييقِ عليهم فيها، فلم يعدْ مسموحًا لهم بشربِها كما يرغبونَ؛ لأنهم صاروا ممنوعينَ منها وقتَ الصلواتِ، والصلاة لها أوقاتٌ لا يجوزُ تأخيرُها عنها؛ لذا كانوا يشربونَ بالليلِ وبعدَ الصبح؛ لبعدِ وقتها من صلاةِ الظهر، ويتركونَها سائر النهار، وهذا التدرجُ في الخمر الذي نزلَ به القرآنُ، أثبتتْ مراكز البحث العلميّ أنه وسيلةٌ ناجعةٌ لفطمِ النفس عن كلِّ ما يشقُّ عليها تركهُ، مِن الأشياءِ الضارةِ، وهو ما تتبعُه الآن الوسائلُ العصرية، والمصحاتُ العلاجية، في مكافحةِ العاداتِ الضارة؛ كالتدخينِ، وإدمانِ المخدراتِ والخمورِ.
والظاهرُ أن هذا الجزء من الآية المتعلق بالخمر، نزلَ قبل الجزء الذي يليهِ (وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ …) المتعلقِ بغُسلِ الجنابة، والتيممِ للصلاةِ عند المرضِ أو في السفرِ؛ لفقدِ الماء، ومن المعروف أن آيةَ التيمم نزلتْ في غزوة المريسيعِ، في السنةِ السادسة، ولم يكنِ التيممُ معروفًا قبلَها، ولذلك بقيَ المسلمون في تلك الغزوةِ في حرجٍ، حين حُبسوا على غير ماءٍ، وليس معهم ماء، ونزلتْ آية التيمم في تلك الغزوة، ويترجحُ أن الذي نزلَ حينها هو آيةُ المائدة، لا آيةُ النساء؛ لأنّ آيةَ المائدةِ هي التي استكمَلتِ الكلامَ لمن أرادَ القيام للصلاة، على كلِّ أنواع الطهارة وموجباتِها، ذَكَرتْ موجباتِ الطهارةِ الصغرَى: الأَحداثَ، واللّمسَ، وموجباتِ الطهارةِ الكبرى: الجنابةَ، وذكرتْ أنواعَها الثلاثة: الوضوءَ، والغسلَ، والتيممَ البديل، عند عدم القدرةِ على الطهارةِ بالماء في الغسل، وكذلك في الوضوء، بخلافِ آيةِ النساء، فكانَ فيها إجمالٌ لما كان معلومًا قبلها في المائدة، وقد اقتصرتْ آيةُ النساء على التيمم، دون ذكر المبدلِ عنه، وهو الوضوءُ، مما يدلّ على أنّ حكمَ التيمم كان مقررًا معلومًا لديهم قبلَها.
وسميتْ آيةُ المائدة آيةَ التيمم، مع أن الوضوء ذُكر في أولها؛ لأن الوضوء كان معلومًا حكمُه قبلَها بالسُّنة، فلم يُعرف أنّ المسلمين صلّوا منذ شُرعت الصلاةُ ليلةَ المعراج في مكةَ قبل البعثةِ مِن غيرِ وضوءٍ، جاء في صحيح البخاري: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ، أَوْ بِذَاتِ الْجَيْشِ، انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي، فَأَقَامَ رَسُولُ اللهِ عَلَى الْتِمَاسِهِ، وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَقَالُوا: أَلَا تَرَى إِلَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ؟ أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللهِ وَالنَّاسِ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ، وَرَسُولُ اللهِ وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي، قَدْ نَامَ، فَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ اللهِ وَالنَّاسَ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ؟ فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُولَ، وَجَعَلَ يَطْعَنُنِي بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي، فَلَا يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ، إِلَّا مَكَانُ رَسُولِ اللهِ عَلَى فَخِذِي، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ حِينَ أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى آيَةَ التَّيَمُّمِ. فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ: مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أبي بكر، فوَ اللهِ مَا نَزَلَ بِكِ أَمْرٌ تَكْرَهِينَهُ إِلَّا جَعَلَ اللهُ لَكِ وَلِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ خَيْرًا. قَالَتْ: فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ، فَأَصَبْنَا الْعِقْدَ تَحْتَهُ)([7]).
[1]) الحجر: 15.
[2]) البقرة: 219.
[3]) الترمذي: 3026، وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.
[4]) المائدة: 90.
[5]) المائدة: 91.
[6]) البخاري: 4993.
[7]) البخاري: 334.