بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (77).
(سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) [البقرة:142-143].
نزلت هذه الآية (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ) قبل تحويل القبلة، ففيها إخبار بالغيب، عمّا سيقوله المشركون عندما يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة باستقبال بيت المقدس، فإنهم سيلومونه عن ترك الكعبة قبلة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، الذي يدعون اقتفاء أثره، وهي إخبار أيضًا بما سيقوله اليهود والمنافقون، عند تغيير القبلة فيما بعد، من بيت المقدس إلى الكعبة.
فإن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين قبل الهجرة كانوا يصلون إلى الكعبة، وبعد الهجرة أُمروا بالصلاة إلى بيت المقدس، تأليفًا لليهود بالمدينة، الذين يزعمون أن بيتَ المقدس قبلتُهم، فصلى المسلمون بعد الهجرة ستة عشر شهرًا إلى بيت المقدس، ثم حولت القبلة إلى الكعبة؛ كما جاء في حديث البراء عند البخاري[1].
فإخبار القرآن بتحول القبلة قبل وقوعه إظهارٌ للمعجزة، وتثبيتٌ للمؤمنين، وتعليمٌ لهم كيف يجيبون عن سؤال المشركين واليهود حين وقوعه، حتى يكون الجواب أقطع لشغبِ المشاغبين.
والسفهاء جمع سفيه، صفة مشبهة من سفه، إذا صار السفه له سجيةً، والسّفهُ في اللغة: الخفة والطّيشُ، والمراد بـ(السُّفَهَاءُ) خفاف العقول، ضعاف الأحلام، فهم لا يقدرون على معرفة ما يصلحهم، لذا يرتكبون ما يلحق بأنفسهم المهانة والضرر (مِنَ النَّاسِ) المراد بالنّاسِ المنكرون لتغيير القبلةِ، من المشركين واليهود والمنافقين، فكأنهم صنف من الناس لا أحدَ أسفه منهم، سيقولون: (مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) ما الذي جعلهم يتركون ويعرضون عن بيت المقدس، قبلتهم التي كانوا يصلون إليها كما يقول اليهود، أو ما الذي جعلهم يتركون الكعبة، ويصلون إلى بيت المقدس، كما يقول المشركون.
وفعلُ (ولَّى) مِن الأضدادِ، يجيءُ بمعنى أَقبَل وبمعنى أَعرَضَ؛ فإذا عُديَ إلى المفعولين بنفسهِ كان بمعنى أَقبل، تقول: وليته سمعي، إذا أَقبلتَ عليه، وإذا عديَ إلى المفعول الثاني بعَن - كما في هذه الآية (عَنْ قِبْلَتِهِمُ) - يكونُ بمعنى أعرض، والضمير المتصل في قوله (َلَّاهُمْ) للمسلمين، أي: ما الذي جعل المسلمين يعرضون عن قبلتهم؟ والاستفهام في قولِهم (مَا وَلَّاهُمْ) استعملوهُ في التعريض بتخطئة المسلمين في توليهم عن (قِبْلَتِهِمُ) والقِبلةُ أصلُها اسم للحالة التي يكون عليها المستقبِل لشيءٍ أو لجهةٍ، فهي مثل الجِلسة والقِعدة، ثم صارت في العرف اسمًا للجهة التي يستقبلها المصلّي، وأضيفت القبلة للمسلمين في قولهِ (قِبْلَتِهِمُ) للدلالة على اختصاصهم بها، فلم يكن المشركون يصلُّون أصْلًا، ولم تكن لهم قبلة، واليهود تعارفوا على التوجه في صلواتهم إلى الصخرة، وليس ذلك في أصلِ دينهم؛ لأن بيت المقدس بناه سليمان عليه السلام بعد موسى عليه السلام، والنصارى توارثوا من كنائسهم القديمة التوجهَ إلى جهة الشرقِ، فاختصاصُ المسلمين بإضافة قبلة بيت المقدس أو الكعبة إليهم؛ لأنهم قبل الهجرة كانوا يصلون إلى الكعبة قبلة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وبعد الهجرة أُمروا بالتوجه إلى بيت المقدس، فهي قبلتهم، وتحويلهم بعد الهجرة إلى الكعبة رجوعٌ إلى الأصل، فهي قبلة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وقبلة الأنبياء جميعًا.
(قُلْ لِلهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) ليس المراد بالشرق والغرب فقط الجهتين المتعارف عليهما بين الناس، بل المراد الجهات كلها لله، فهي في ملكه وسلطانه، وليس لجهة دون أخرى خاصية ذاتية، لا تجعل غيرها تقوم مقامها، فالمعتبر في تفضيل الجهات والأمكنة هو امتثال الأمر، لا ذات المكان (يَهدِي مَن يَشاء إِلى صِراطٍ مُستقِيمٍ) الصراط المستقيم ما يوجه سبحانه إليه عباده، مما تقتضيه الحكمة ويحقق لهم المصلحة، سواء فيما يتعلق بالتوجه في الصلاة إلى هذه الجهة أو تلك.
والكاف في قوله: (وَكَذَلِكَ) للتشبيه، والإشارة بذلك إلى ما تقدم، أي: كما هداكم إلى الصراط المستقيم في القبلة - بتوجهكم إلى الكعبة وهي أفضل الجهات - جعلكم أمة وسطًا، خيارًا بين الأمم، ويصح أن تجعل الكاف في (وَكَذَلِكَ) للتفخيم والتهويل؛ لما يعقبها من التفصيل بعد الإبهام[2].
والوسَط اسم جرى مجرى الوصف، يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، وأصل الوسَط المكان الذي يقع على مسافة واحدة من جميع جوانبه، ثم استعير للخصال المحمودة؛ لوقوعها وسطًا بين الإفراط والتفريط، كالجود وسط بين البخل والإسراف، والشجاعة وسط بين التهور والجبن، والإنصاف وسط بين التعصب والبغض، والعدالة وسط بين الرحمة والقسوة، وهذه الأمة وسط بهذا المعنى، قال تعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) أي: عدلًا خيارًا، فهي وسط بين النصارى الغالِين، الذين ألَّهُوا المسيح، وبين اليهود الجافِين، الذين حرّفوا كتابهم، وقتلوا أنبياءهم.
ويطلق الوسط على مَن اتصف بالخصال الحميدة في مقام النّسب، نسب الإنسان في قومه أو قبيلته، وفي مقام الشهادة على الغير، كما هنا، وكما في قوله تعالى: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ)([3])، فالوسطُ في الشهادة غاية العدالة، كأنه ميزانٌ لا يميلُ مع أحدٍ، وليس الوسطُ دائمًا الأفضل في كلّ شيء، فقد يكونُ الوسطُ مِن الرديءِ، ومنه في المثل: (أَخُو الدُّونِ الوَسط).
[1] البخاري:40، ومسلم:818.
[2] وهي كالكاف في قوله عز وجل: (كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ)، فهي تفيد تهويل الأمر من استمرار الحال التي هم عليها، ولو كانت الكاف فيها للتشبيه لما احتيج إلى إعادة (مثل قولهم)، وعليه حمل قول أبي تمام:
كذا فليجلَّ الخطبُ وليفدحِ الأمرُ فليسَ لعين لم يفضْ ماؤها عذرُ
لأنه أتى به في صدر القصيدة، لم يسبق له ما يشبه به، فموضع (كذا) في البيت التفخيم والتهويل، واستمرار الحال على ذلك.
[3]) القلم: 28.