بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (113).
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) [البقرة:217].
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ) هذا سؤال آخر للنبي صلى الله عليه وسلم - بعد السؤال عن الأهلة - هذه المرة من المشركين، عقب سرية بعث عليها النبي صلى الله عليه وسلم عبدَ الله بنَ جحش رضي الله عنه، ليترصد عِيرًا لقريش، عليها عمرو بن عبد الله الحضرميّ، فقتلُوه، وأسروا اثنين ممن معه، وكان ذلك في رجب قبل غزوة بدر، ورجب من الأشهر الحرم، التي كانوا في الجاهلية يضعون فيها السلاح، ولا يقاتلون، فقالوا: استحلَّ محمدٌ الشهرَ الحرام، شهرًا يأمنُ فيه الخائف، فشقَّ ذلك على المسلمين، فنزلت: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ). وأل في (الشَّهْرِ) للجنس، فالسؤال عن جنسِ الشهرِ الحرام من حيث هو؛ هل يجوز فيه القتال أم لا؟ فأُجيبوا: القتال في الشهر الحرام إثمٌ كبير، وهذا هو الحكم الذي كان متقرِّرًا عندهم في الأشهر الحرم، وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، والقتال فيها محرم، توارثوه في الجاهلية قديمًا، ربما مِن دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وأقرَّ الإسلام هذه الحرمة في أولِ الأمر، ثم أذنَ فيها للمسلمين بقتال الدفع عن النفسِ دونَ البدء، بقوله تعالى: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)( )، ثم نسخ الحكم جملةً، وأذن فيها بالقتال المشروع مطلقًا، بقوله تعالى: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)( )، وقد غزا النبيُّ صلى الله عليه وسلم الطائفَ في ذي القعدة من السنة الثامنة، عقب فتحِ مكة، كما ثبتَ في الصحيح ، (وَصَدٌّ) منعٌ وصرفٌ للناس (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عن الإسلام وعبادة الله وإعلاء كلمته (وَكُفْرٌ بِهِ) أي: كفر بالله ، لا بالمسجد الحرام؛ لأنهم وإن كانوا يصدون عنه، فقد كانوا يعظمونه. (وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) أي: وصدّ عن المسجد الحرام (وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ) أي: إخراج أهله جرمه عظيم وكبير، وتقدير الكلام: وصدّ عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، وإخراج أهله منه، وكفر بالله، أكبر عند الله حرمةً من القتال في الشهر الحرام، الذي استعظمتموه وأنكرتموه. والأهلُ كل جماعة لها مزيد اختصاص بما نسبت إليه، فأهلُ الرجل زوجتُه وقرابته، وأهل النجدةِ والشجاعة المتصفون بها، والمعنيون في الآية هم أهل مكة، مَن كانوا بها، وهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، الذين أخرجوا منها، فإنهم أهل المسجد الحرام، فكان في اضطرارهم للخروج فرارًا بدينهم، وتركهم ديارهم وأموالهم وقراباتهم ظلمٌ كبير، عانوا منه الويلات، وقاسوا منه الشدائد، على الرغم مِن الترحاب وسعة الصدر التي استقبلهم بها الأنصار في المدينة، ولشدة وقع الإخراج عليهم أعقبه الله بقوله: (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) فهي كالتعليل لما قبلها، فإنّ الإخراج من الأوطان محنة وفتنة، فهو أعظم من القتل ، والمعنى: وهذه الأربعة المذكورة أشدُّ انتهاكًا للحرمةِ مما وقعَ بالخطأ من السريةِ، في الشهر الحرام. والفتنة: الاضطراب والحيرة، وهي ما لقيه المسلمون من صنوف الأذى، من صدهم عن الإسلام بطرق شتَّى؛ بالإذلال، والسفه عليهم، والسب والشتم والضرب والمقاطعة والتعذيب، والسخرية منهم، والاستخفاف بهم، والاستهزاء بدينهم، وإخراجهم من ديارهم، فهذا كله من الفتنة، وهي أكبرُ من القتل، وأشدّ عليهم منه (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ) حتى للغاية، أي: الغايةُ التي يرجونها من قتال المسلمين وعداوتهم ردُّهم عن دينِهم (إِنِ اسْتَطَاعُوا) ولكن تحقيق هذه الغاية بعيد، لا يصلون إليه، وإنما ذكر على سبيل الفرض، كما يفرض وقوع المستحيل، كالغاية المذكورة في قوله تعالى: (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ)( )، فالإتيان بـ(إنْ) في قوله: (إِنِ اسْتَطَاعُوا) لاستبعاد حصول أنْ يردوهم عن دينهم، وذلك كما تقول لأحدٍ: إنْ قدرتَ عليَّ فدونَك، فحصولُ ردِّهم عن دينهم بصفةٍ جماعية لا يكون، قال تعالى: (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)( )، والمعنى: أنّ عداوتهم للإسلام مستمرة، وغايتهم منها ردُّ المسلمين عن دينهم، ولن يقدروا عليه.