المنتخب من صحيح التفسير -الحلقة 191 - تابع سورة آل عمران

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 الحلقة (191)

 

(إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُنزَلِينَ بَلَىٰ إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُوا خَائِبِينَ)[آل عمران:124-127].

جملة (إِذْ تَقُولُ)  ظرف زمان متعلق بـ(نَصَرَكُمُ) في الآية السابقة، أي: نصرَكم اللهُ وثبتَكم يومَ بدر، وذلك حينَ قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ) والاستفهامُ في (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ) تقريريّ، مقرونٌ بالنفيِ بحرفِ لَنْ، وجوابه قولهُ فيما بعد (بَلَى) التي تفيدُ إثباتَ أنهُ يكفيهم هذا العددُ، وقد كانوا كالآيسينَ مِن النصر، لضعفِهِم وقلةِ عددِهِم وعدتِهم، ثم قال لهم: (إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ).

وقوله: (مِنْ فَوْرِهِمْ) أي: مِن لحظتهم وساعتهم، والفور: مِن فارت القدر، إذا غلَتْ، وهو مستعملٌ في العجلةِ دون تأخيرٍ ولا بطءٍ، والإشارةُ في قوله: (هَذَا) ترجعُ إلى الفورِ، فكأنّ الفورَ لحضورهِ وسرعتهِ ماثلٌ محسوسٌ.

والضمير في قوله: (يَأْتُوكُمْ) يمكنُ أن يكونَ للمشركين، ويكون المعنى: لو صبرتم وأطعمتم، وباغتَكم العدوُّ بأعدادٍ أخرى على عجلٍ، فإنّ اللهَ يمددكُم بخمسةِ آلافٍ بدلَ الثلاثةِ دونَ تأخيرٍ، ويمكنُ أن يكونَ ضمير (يَأْتُوكُمْ) عائدًا على المددِ الأولِ من الملائكةِ، وهو الثلاثةُ آلافٍ الأولى، ويكونُ المعنى: إن تصبرُوا وتتقُوا يزدَدْ عددُ الملائكة،  ويكونُ الإمدادُ بخمسة آلافٍ، يأتوكم من فورهم دون تأخير.

و(مُسَوِّمِينَ) أشداءَ أقوياءَ، وأصله مِن السِّمة، وهي العلامةُ التي توضعُ على الرأسِ أو الكتف، مقلوبٌ من كلمةِ وسم، ولا يحمل العلامة ويضع الشارةَ على رأسهِ أو صدره في المعركةِ إلّا المقاتلُ الصعبُ المراسِ، الذي يَهابهُ الأقرانُ، فكأنه بحملِ العلامة يعرّفُ بنفسهِ، ويقولُ لعدوه: ها أنا ذَا، لا أتّقيكَ ولا أتوارَى بين الصفوفِ، فمن أرادَ الموتَ فليتعرضْ لي، كما قال الحجاج في خطبته يتحدَّى خصومَه:

مَتَى أضعِ العمامةَ تعرفُونِي

ودلت الآيةُ على أن نزول الملائكةِ للقتالِ مع المسلمينَ مشروطٌ بالصبرِ والطاعةِ، لذا حُرموا منه يومَ أُحد؛ لفقد شرطه، وقد كان الوعد بالملائكة يوم بدر متدرجًا، وعدَهم الله أولَ الأمر بألفٍ، كما في آية الأنفال: (أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ)([1])، أي: سيردفون بغيرهم، ويزدادُ عددُهم، ووعدهم هنا في آية آل عمران بثلاثة آلافٍ (مُنْزَلِينَ) ينزلون على الأرضِ يقاتِلون معكم، وقد رأى بعضُ الصحابةِ أثرَهم، فكانوا يرونَ الرؤوس تُقطع ولا يرون مَن يقطعُها، ثم مع الثبات والصبرِ، وعدهم بخمسةِ آلاف مسوَّمين، معلَّمينَ، أقوياءَ أشدّاءَ.

(وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ) الضمير في (جَعَلَهُ) و(بِهِ) يعود على المدد بالملائكة، والاستثناءُ في قوله (إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ) مفرغٌ يفيد الحصر، أي: ما جعله اللهُ شيئًا إلّا بُشرى، فبُشرَى مفعولٌ ثانٍ، والبُشرَى: الخبرُ بمَا يسرُّ، وقوله (لَكُمْ) لأجلكمْ؛ كرامةً لكم، وإعلاءً لشأنكم (وَلِتَطْمَئِنَّ) مِن الطمأنينة، وهي السكون، والمراد ثباتُ القلب ويقينهُ بوعدِ الله ونصرِه، وهو معطوفٌ على (بُشرى)، فهو داخلٌ في الحصر والاستثناء المفرغ، أي: ما جعل الله المددَ بالملائكة شيئًا إلّا بُشرى لأجلكم، تكريمًا لكم، وسكينةً، وتثبيتًا لقلوبكم حينَ تلقونَ عدوكمْ، فاثبتوا، ولا ترهبكم كثرةُ عددهم وعدتهم، فما النصرُ إلّا مِن عند الله، لا مِن عند الملائكةِ، ولا بكثرةِ العددِ أو قلتهِ، وجاء هذا بأسلوبِ الحصر؛ لأن الناسَ بحسب العادة يتعلقونَ بالأسبابِ الظاهرة، فأمدّهم اللهُ بها، حتى يجري لهم الأمر على السّنن، فلا يتّكلُونَ ويقصرونَ في أخذِ العدة، ولكنه أوقفَهم على حقيقةٍ يجبُ أن تصحبَهم في معاركِهم ولا يغفلُوها، وهي أنّ النصر في المعاركِ ليس إلا مِن عند الله (الْعَزِيزِ) الذي لا يُغلَب (الْحَكِيمِ) الذي يأتي بالنصرِ لمن يستحقّهُ، يعجلهُ أو يؤخرهُ في الوقتِ الذي يصلحُ له، وتقتضيهِ حكمته (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ)([2]).

(لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) قوله: (لِيَقْطَعَ) متعلقٌ بقوله: (وَلَقَدْ نَصَرَكُم) أي: نَصَرَكم ليقطعَ ويستأصل سادتكم وكبراءكم، فالقطع: الاستئصال والتمْوِيتُ (طَرَفًا) طرف الشيء: ناحيته وجانبه، وتنكيره للتفخيم، والمراد طائفة منهم، مِن سادتهم وعليتِهِم (أَوْ يَكْبِتَهُمْ) مِن كَبَتَ بمعنى: كَمَدَ وأغَاظَ، وأصلُه كَبَدَ، أُبدلَتْ دالُه تاءً، ويقال: كبدَ إذا أصيبَ بداءِ الكبدِ، ومنه: رُئِي، إذا أصيبَ بداءِ الرئة (فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ) فيرجعهم مغمومِين مكمُودينَ، يجرُّون ذيولَ الخيبةِ والهزيمة، يملأُ قلوبَهم الغيظُ، و(أَوْ) في قوله: أو يكبتهم للتنويع، أي: منهم مَن قُتل ومنْهم مَن رجعَ منهزمًا بغيظِهِ، فعلَ اللهُ تعالى بهم ذلك في بدرٍ، فقطع طرفًا منهم بالموت، وكبتَ طائفةً بإغاظة قلوبهم بذُلّ الهزيمة والأسْرِ، وقد قُتل من رؤوس الكفرِ وصناديدِ قريش  يومَها سبعون، وأُسرَ سبعون.

 

[1]) الأنفال: 9.

[2]) البقرة: 250.

التبويبات الأساسية