المنتخب من صحيح التفسير -الحلقة 108- تابع سورة البقرة

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

- الحلقة (108).

(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ فَإِن زَلَلْتُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [البقرة:207-209].

(يَشْرِي) يبيع، وقد تقدمَ الكلامُ على مادة الشراء في قوله: (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ) في أول البقرة (ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) طلب مرضاته (وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) أل لاستغراق الجنسِ، أي: رؤوف بكلّ العبادِ، لكن رأفته بهم على مراتب؛ منهم مَن تنالهم رأفته في الدنيا والآخرة، على درجات متفاوتةٍ، ومنهم مَن تنالهم رأفته في الدنيا، وما لَه في الآخرة من نصيب.

وهذا القسم الذي يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، هو أرفع الأقسام، وقد تقدم قبله ثلاثة؛ فريق لا يريد إلا الدنيا، وفريق ثان - هو من المؤمنين - مقتصد، يطلب في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وفريق ثالث - وهو أدونها - المنافقون، الذين يعجبك قولهم في الحياة الدنيا، والفريق الرابع الذي يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله هم السابقون، الذين باعوا أنفسهم لله، وتركوا الدنيا وراء ظهورهم، والآية وإن قيل بنزولها في صهيب رضي الله عنه، حين أخذه المشركون في مكة وعذبوه، ففدى نفسه بكل ما يملك؛ ليتركوه يهاجر إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ فإنها تعم كلَّ مَن فعلَ فِعله، وقدَّم نفسه وماله رجاء مرضاة ربه، وفيها دليل على جواز حمل الواحد بمفرده على العدو، إذا كان في ذلك إنكاء وإرهاب لهم، ولا يعدّ مِن الإلقاء بالنفس إلى التهلكةِ، ومن رأفةِ الله بعباده أنه يدلُّهم على ما به صلاحُ حالهم، وبذل أموالهم وأنفسهم مِن أجله.

(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) للمسلمين (السِّلْمِ) بالكسر والفتح، وقرئ بهما، هو الاستسلام والانقياد، مشتركٌ بين معنى المصالحة وبين معنى الإسلام، فعلى معنى المصالحة؛ يمكن أن تكون الآية دعوة للمسلمين إلى الصلح بعد صلح الحديبية، الذي استعظموه أول الأمر، كراهيةَ أن يعطوا الدنية في دينهم، كما كان يقول عمر رضي الله عنه: " أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ ... ثم قَالَ: فَعَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا"( )، فأُمروا كافةً بالدخول في السلم والمصالحة، حتى تطيب نفوسهم بما كان في الحديبية، ويمكن أن تكونَ الآية أمرًا عامًّا للمسلمين، بأن يحرصوا على الدخول في السلم والمصالحة، بعد أن أُمروا في الآيات السابقة بقتال مَن قاتلهم، وردِّ عدوان مَن اعتدى عليهم؛ لئلَّا يتجاوزوا ما أُمروا به، فيقاتلوا حتى مَن لم يقاتلهم، ويرجعوا بذلك إلى ما كانوا عليه في الجاهلية، مِن ضربِ بعضِهم رقابَ بعض؛ انتقامًا وثاراتٍ، لا تضع فيها الحرب أوزارها. وعلى أن المراد بالسلم الإسلام، يكون أمرُ مَن آمنَ بالإسلامِ على معنى الأخذِ بشعب الإيمانِ جميعًا، والاستدامة عليه، ليتمكنَ مِن قلوبهم؛ كما في قولهِ تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ)( ). و(كَافَّةً) لفظٌ يفيد معنى الإحاطة والشمول، أي قاتلوهم جميعًا . (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) تحذير مما يقع مِن كراهية الصلح، عندما تدعو الحاجة إليه، ويحققُ مصلحةَ المسلمين؛ كما وقع في الحديبية. وإذا حمل (السِّلْم) في الآية على الاستدامة على الإسلام، والتمكن من شُعب الإيمان؛ فيكون النهي عن اتباع خطوات الشيطان كالتأكيدِ لِما قبله؛ لأن للشيطان مدخلا في التفلُّتِ من التمسك بشعب الإيمان، وتقدم الكلام على اتباع خطوات الشيطان في قوله سبحانه وتعالى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) في هذه السورة. (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) الزلل والزلق: السقوط بسبب عدم ثبات القدم في موضعها، ومجيءُ البيناتِ: ظهورُها ووضوحُها، والبيّناتُ: المعجزات والدلائلُ، والحجج الواضحة مِن آياتِ الوحي، وقوله: (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) جواب الشرطِ (إن زللتمْ)، والعزيز: القويُّ الذي لا يُغلب، فلا يُفلِت مَن عصاه، ولا تقع على من أطاعه عاقبة ضيم، والحكيمُ: المحكمُ للأمور، المتقنُ لها، الذي يضعُ كلَّ شيءٍ موضعَه، فعقابُه يصيبُ به مَن يستحقّه، وغفرانُه وعفوُه في موضعه. والمعنى: فإنْ أعرضتُم عمّا أُمرتم به، مِن الاستسلام لله، والانقيادِ له، ووقعتم فيما نُهيتم عنه، مِن اتباع خطوات الشيطانِ، بعدما جاءتكم البيناتُ، وأُقيمتْ عليكم الحججُ، فالله غنيٌّ عنكم، عزيزٌ حكيمٌ، يجازيكُم بما تستحقونَ. رويَ أنّ قارئًا قرأ هذه الآية، وقال: (فإن الله غفور رحيم) بدل (عزيز حكيم) فسمعه أعرابي فأنكره، وقال: لا يقول الحكيم هكذا، لا يذكرُ الغفران عند الزلل؛ لأنه إغراءٌ عليه. وجاء عن الأصمعي قوله: كنت أقرأ: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله غفور رحيم)، وبجانبي أعرابي، فقال: كلام مَن هذا؟ قلت: كلام الله، قال: ليس هذا كلام الله، فانتبهتُ فقرأت: والله عزيز حكيم، فقال: أصبتَ، هذا كلام الله، فقلت: أتقرأُ القرآن؟ قال: لا، قلت: مِن أين علمْت؟ قال: يا هذا؛ عزّ فحكمَ فقطعَ، ولو غفر ورحم لمَا قطعَ.

التبويبات الأساسية