بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (34)
(يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ).
بنو إسرائيل هم بنو يعقوب، فإسرائيل لقب نبي الله يعقوب بن نبي الله إسحاق بن نبي الله إبراهيم عليهم السلام، ومعنى إسرائيل: عبد الله، مركبٌ مِن جُزئين؛ (إسْرا) بمعنى عبد، و(إيل) اسم الله، وإسرائيل مضافٌ إلى بني، ممنوعٌ مِن الصرف، للعلميةِ والعجمة، ونبيُّ الله يعقوبُ له اثنا عشرَ ابنًا، همُ الأسباطُ المذكورونَ في القرآنِ، في قولِه تعالى: (وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ)[1]، والأسباطُ: الأحفاد؛ لأنهم أسباطُ إسحاقَ بنِ إبراهيمَ، ونَسبُ بني إسرائيلَ جميعًا يرجعُ إلى الأسباطِ، ونُسِبُوا إلى يعقوبَ (إسرائيل) لأنّه أقربُ أجدادِهم.
(اذْكُرُوا): مِن الذِّكر، وأصلُ الذكرِ التنبّهُ بالقلبِ للمذكورِ، والتَّيَقُّظُ له، فذكرُ القلبِ هو الأصَلُ في الذكرِ، ويليهِ الذكرُ باللسانِ؛ بالتهليلِ والتسبيح والتحميدِ والاستغفارِ؛ لأن ذكرَ اللسان يدلّ على ذكرِ القلب، إلَّا أنّه لمّا كثُر إطلاقُ الذكر على القولِ باللسانِ، صارَ هو المتبادر السابق للفهمِ.
وذكرُ القلب أساسُه الخشيةُ والخوفُ مِن الله، والإيمان بالرسولِ، وترك المكابرةِ والنفاقِ، واليقين بما عندَ الله، والثقة بوعدِهِ.
وهناك نوعٌ ثالث من الذكر، وهو الأهمّ والأجل؛ ذِكرٌ بالوقوفِ عندَ الأمرِ والنهي، فهو أفضلُ الذكرِ؛ قال عمرُ رضي الله عنه: "أفضلُ مِن ذِكرِ اللهِ باللسانِ؛ ذكرُ اللهِ عند أمرِه ونهيِه"، فطاعةُ الله، والوقوف عند أمره ونهيه؛ هو الذكرُ المحقّقُ لمعنَى الذكرِ ومقصودِه.
فمَن لمْ يُطِع الله لمْ يذكُرْه، وإن أكثرَ التسبيحَ والتهليلَ وقراءةَ القرآنِ.
والأمرُ بالذكر في الآيةِ يعمُّ أنواعَ الذكرِ الثلاثةَ.
(نِعْمَتِيَ): مفرد مضاف، والمفردُ المضافُ مِن صيغ العمومِ، فيعمّ جميع نعمِ الله، ولفظ نعمة وإن كان مفردًا؛ فهو في معنى الجمع؛ كما في قوله تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لا تُحْصُوهَا)[2]، أي: نعمه، وكقوله: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ)[3]، فيعم جميعَ أمرِه، وجميع نعمه التي امتنّ الله تعالى بها على بني إسرائيلَ، ويشمل المخاطَبين منهم عند نزول القرآن، وهم يهود المدينة، ويشملُ أسلافَهم، قوم موسى عليه السلام، وذلك لأنّ النعمة على الآباءِ الأوائلِ نعمةٌ على الأبناءِ، وإن بَعدُوا، قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ)[4].
وفي قولِه: (الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ)؛ تذكيرٌ بما يستدعِي الامتثالَ، ويبعثُ على الإيمان، وعونٌ على أنْ يتخلّصوا مِن داءِ الحسدِ، الذي يصدُّهم عن اتباعِ النبيّ صلى الله عليه وسلّم، فإنّ العبدَ كثيرًا ما يغفلُ عمَّا بهِ مِن النّعم، ويشتغلُ بما عندَ غيرِه، فتذكيرُه بنعمِهِ مِن أنفعِ ما يُصلحُ فسادَ قلبِه.
ومِن نعمه على بني إسرائيل؛ أنْ فضَّلَهم على العالمينَ في زمانِهم، وجعلَ منهم أنبياء ومُلوكًا، وأنجاهُم مِن آلِ فرعونَ، وأنزلَ عليهم المنَّ والسلوَى، وأنزلَ عليهم التوراةَ، والكتبَ التي فيها صفةُ محمد صلى الله عليه وسلّم ونعتُهُ؛ ليعرفُوه، ويؤمِنوا بهِ، إلى غير ذلك من النعمِ الكثيرةِ، التي تستحقُّ الشكر.
(وَأَوْفُوا بِعَهْدِي): عهدُ الله - الذي أمرَهم بالوفاءِ به في هذهِ الآيةِ، وأُمِرنا أيضًا في آياتٍ أخرَى بالوفاءِ به؛ كما في قوله تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ)[5] - يشملُ جميعَ الأوامرِ والنواهِي، مِن أمورِ الإيمانِ والتوحيدِ، والتزامِ شرائعِ الدينِ، ويدخلُ فيه إيمانُ اليهودِ بمحمدٍ صلى الله عليه وسلّم، المذكورِ في كتبِهم، وقد رتَّبَ الله عليه إنْ وفوا قوله:
(أُوفِ بِعَهْدِكُمْ): ووفاؤُه بعهدِه سبحانَه - إنْ وَفوا - أنْ يُدخلَهم الجنةَ، وترتيبُ وفاءِ اللهِ على وفائِهم مِن بابِ المشاكلةِ والمجانسةِ في اللفظِ، على معنَى: أنّ الوفاءَ بعهدِ الله، والاستقامةَ على الدين، أمَارةٌ لوفاءِ الله تعالى لهم بدخولهم الجنة؛ تفضُّلًا منهُ ومِنّةً، لا شرْطًا على الله، وعلة لا تنفكُّ عن معلولها، فإنّ الله تباركَ وتعالى لا يجبُ عليهِ شيءٌ، قال تعالى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ)[6].
(وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ): إيّايَ؛ منصوبٌ بفعلٍ محذوفٍ متأخّرٍ عنهُ، دلّ عليه المذكورُ، أي: إيايَ ارهبُوا فارهَبونِ، إذ لا يجوزُ أنْ يعملَ فيه الفعلُ المذكورُ، لوجودِ الفاءِ، التي لها الصّدارةُ، وحذف الفعل العاملِ في الضميرِ؛ لأنّه لا يجوزُ ذكر الفعلِ وتقديمُه على ضميرِه المنفصلِ، مع بقائِه منفصِلًا، فلا يقال: (ارهبُوا إيّاي)، بل يقالُ: ارهَبونِي، والرّهبُ والرَّهبةُ: الخَوفُ، فهو تهديدٌ وتخويفٌ مِن سطوةِ الجبارِ وانتقامِه.