المنتخب من التفسير -الحلقة 223- سورة النساء

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 الحلقة (223)
(وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)[النساء:18-19].
(وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ) فلا يتوبون من قريب، يضلُّهم الشيطان ويتلاعبُ بهم، يسوفونَ التوبةَ مغترين بشرخِ الشباب، وطولِ الأمل، وزهرةِ الحياة، حتى ينسَل منهم العمر خلسةً، وتخدعُهم الأيام والسنون، ويأتي الموتُ على غير موعد، فإذا (حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) وحشرجتِ النفسُ، وغرغرَ بها الصدرُ (قَالَ) أحدهم (إِنِّي تُبْتُ الآنَ) وهي توبة حينها لا تنفع عاصيًا، ولا يُقبل معها إيمان كافر، قال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَغْفِرُ لِعَبْدِهِ أَوْ يَقْبَلُ تَوْبَةَ عَبْدِهِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ)( ).
(وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) ولا توبة كذلك للذين يموتون – أي يشرفون على الموت – وهم كفار، أي يريدون أن يؤمِنوا وقتَ إشرافهم على الموت؛ لأن مَن مات بالفعل لا تتأتى له توبة، إلا أن يحملَ عدمُ قَبول التوبة في حقه على أنه لا ينفعُه الندمُ بعد الموت، وإيمانُ مَن أشرفَ على الموت، هو كإيمان فرعون لما أدركه الغرق: (قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ)( )، ردَّ الله تعالى عليه بقوله: (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)( ) (أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) أَعْتَدْنَا: هيأْنَا وجهزْنا، من العتاد الذي يتخذُ إعدادا لأمرٍ من الأمور، أو التاء في (أعتدنا) بدل الدال بمعنى أعددْنا، والمقصود به الوعيد والتخويف، أي: أعتدنا وأعددنا العذاب الشديد الألم، للمشار إليهم بـ(أُولَئِكَ) وهما الفريقان؛ العصاة، ومن لم يؤمن إلا بعد اليأس من الحياة وفوات الأوان، كلاهما لا تنفعه التوبة، ومتوعد بالعذاب، إلا أن عذاب الكافر واقعٌ به لا محالة، والعاصي في المشيئة، إن شاءَ غفر الله له، وإن شاء عذبه، قال تعالى: (إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ)( ).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَآءَ كَرْهًا) (كَرْهًا) أي تتخذوهنَّ ميراثًا كالمتاع مكرهاتٍ، فتمنعوهن حقوقهن فيما يردن بأنفسهن وأموالهن، والخطاب في النهي عنه عامّ، لكل أحد (وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) العضل أصله العسر والضيق، يقال: عضلت الدجاجة ببيضها، إذا تعسر خروجه، وهو هنا منع المرأة من الزواج (لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ) لتأخذوا بعض ما آتيتموهنّ من المهور، فالذهاب بالشيء: أخذُه وسلْبُه بعد الحصول عليه، ومنه قوله تعالى: (فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ)( ).
والخطاب في (وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) للأزواج خاصة، فيكون من عطفِ الخاص، وهو عضل الأزواج، على العام، وهو جعلُ المرأة ميراثًا، وسلبُها حقوقَها، فقد كان الرجل في الجاهلية يكون غير محتاج إلى المرأة، وليست له فيها رغبةٌ، وإنما يمسكها ضرارًا؛ ليذهب ببعض مالها، حيث تضطر لأن تفدي نفسها منه بمهرها، أو بخلع آخر من مالها، فنهوا عن ذلك (إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ) الفاحشة: من الفحش، وهو الغاية في القبح، ويغلب استعمال الفاحشة في الزنا، وتطلق على كلّ معصية شديدة القبح، ومنها النشوز وعدم الاستعفاف (مُّبَيِّنَةٍ) بالكسر، اسم فاعل، من بَيَّن اللازم، أي تُبيّن أمرها بيانًا لا لبس فيه بأنها فاحشة، وقُرئ (مُّبَيَّنَةٍ) بالفتح، اسم مفعول، أي أن الفحش فيها ظاهر وموضح غاية الوضوح.
وقوله (إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ) مستثنًى من المنع مِن عضلهنَّ لأجل المال، فالعضلُ لأجل أخذ مالها منهي عنه، إلا إذا أتت المرأة بفاحشة مبينةٍ؛ كالزنا وعدم الاستعفاف، أو النشوز، ثم تريد – وهي على هذه الحالة – أن تسرحَ نفسها من الزوج، وتأخذَ مهرها، فمن حقِّ الزوج أن يعضلَها ويمنعها من ذلك، حتى تفتديَ منه على سراحِها.
والآية تضيف حكمًا آخر من أحكام النساء في السورة، في نقضِ أحكام الجاهلية، وما ألِفُوه مِن ظلمِ النساء، والخطابُ في (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا) وإن كان عامًّا للمؤمنين، فيدخلُ فيه دخولًا أوليًّا مَن نزلت الآيةُ بسببهم، أخرجَ البخاري في سبب نزولها عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كَانُوا إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ؛ كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِامْرَأَتِهِ، إِنْ شَاءَ بَعْضُهُمْ تَزَوَّجَهَا، وَإِنْ شَاءُوا زَوَّجُوهَا، وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يُزَوِّجُوهَا، فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا مِنْ أَهْلِهَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي ذَلِكَ)( )، فكان من عاداتهم أنه إذا ما ماتَ الرجلُ جاءَ أكبرُ أبنائه، أو أحد عصبته، وألقى ثوبه على امرأة الميت، فيرثُها منه بذلك، كما يرثُ مالَه، ويكون له الحق أن يتزوجها، فكان الرجل يتزوج امرأة أبيه، ويخلفُه عليها، ولذا قبَّح اللهُ هذا الفعل، ونهاهم عنه بقوله: (وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلً)( ).
وكذلك كان لمن يسبق من العصبة إلى امرأة الميت أن ينكحَها بمهرها الأول، دون أن يعطيَها شيئًا، أو يزوجَها غيرَه، ويأخذ مهرَها، وكان لزوجها أن يعضُلَها وليس له رغبة فيها، حتى تفدِيَ نفسَها منه، فنهاهم الله عن ذلك، وحرّمه بقوله (لَا يَحِلُّ) وهو نص في التحريم وعدم الإباحة، وعطف عليه النهي عن العضل، والمعطوف والمعطوفُ عليه حكمهما واحد.
(وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) عَاشِرُوهُنَّ مِن المعاشرة، وهي: المخالطة الدائمة عن قرب، واشتقاقها من العشيرة بمعنى الأهل، والمعروفُ: المألوفُ الذي تحبُّه النفوسُ وتميلُ إليه، خلاف المنكر الذي تنكره، ولا تعرفُه، ولا تألفُه، ولا تميلُ إليه (فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ) بعد النهي عمّا تعارف عليه أهل الجاهلية من التعدي على النساء، أمرَ اللهُ الأزواجَ بحسن العِشرة، ومعاملةِ الزوجات بالمعروف، وألَّا يتسرعوا في الإساءة إليهنّ بما يؤَدّي إلى البغض والفراق، وأنّ ما يحصل من كراهية لهن ونفورٍ من بعض الطباع، أو الصفاتِ والعادات، مِن حُسن الخلق غضُّ النظر عنه، ولا ينبغي بمجردهِ أن يكون سببًا للبغض والطلاق، فإنّ فضائلَ النفس، وطهارةَ الباطن، وحسنَ المخبر، قد تعوِّضُ وتتضاءلُ معها عيوبُ المظهر، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ)( ) (فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا) بما ترونه مِن ظاهر الحال (وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) في حقيقة الأمرِ، وما إليهِ المآل.

 

التبويبات الأساسية