بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (268)
[النساء:162-165].
(لَّٰكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَٰئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا)[النساء:162].
(لَّٰكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ) هذا استدراكٌ من عموم عقوبة أهل الكتاب، المتقدمة في قوله (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ… إلخ)، يَستثني المؤمنين منهم؛ لئلَّا يُتوهَّم أن جميعَ أهل الكتاب وقعُوا في الكفر، وحلَّ بهم العذابُ، فذكرت الآية أنَّ منهم الراسخينَ في العلم، وأصل الرسوخ ثباتُ القدم في المكان؛ بحيثُ لا تكون عُرضة للزلقِ والسقوط، فالراسخونَ في العلم على يقينٍ ثابتٍ، بما علمُوه عن ربهم من الحق، الذي جاءتْ به الرسل، فلا تزلُّ أفهامُهم باتباعِ المتشابه، كحال مَن في قلوبهم زيغٌ، ومِن هؤلاء الراسخينَ المؤمنونَ الذين آمنُوا (بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ) آمَنوا بالقرآن (وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ) آمَنوا بالأنبياء من قبلك، وبما أُنزل عليهم من كتبِ الله وكلماتِه، فكان إيمانُهم كاملًا، لم يؤمنُوا ببعضٍ ويكفُروا ببعضٍ، ومن هؤلاء الذين آمنوا إيمانًا كاملًا مؤمنُو أهلِ الكتاب، كعبد الله بن سلام، وقوله (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ) قطعتْ عن المعطوفاتِ قبلها، من الرفعِ إلى النصب على المدح؛ اعتناءً بشأن الصَّلاة، أي: وأمدحُ المقيمينَ الصلاةَ منهم، وهذا القطعُ في النعوتِ والمعطوفات شائعٌ في القرآنِ وفي لغةِ العرب، وتقدم في البقرة قوله تعالى: (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ)([1])، عطفًا على: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ)([2])، ومن الشواهد العربية في قطع المعطوفاتِ قول الخِرْنِق بنتُ بَدْر:
لا يَبعَدَنْ قَومي الَّذينَ هُمُ سُمُّ العُداةِ وَآفَةُ الجُزرِ
النازِلِينَ بِكُلَّ مُعتَرَكٍ وَالطَيَّبونَ مَعاقِدَ الأُزرِ([3])
واستشهد له سيبويه بقول الهذلي:
ويَأْوِي إلى نِسوةٍ عُطّلٍ وشُعثًا مراضيعَ مِثْلِ السَّعالِي([4])
فلا يُلتفت إلى زعم أنّ (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ) لحنٌ وقع في خط المصحف؛ استنادًا إلى ما رُوي عن عثمان رضي الله عنه بسند ضعيف؛ أنه لحنٌ تقيمه العرب، وممن ذكره الشاطبيُّ في نظمه: الرائية في رسم المصاحف العثمانية وشروحها، فأسندوا إلى عثمان رضي الله عنه أنه لما فرغ من المصحف أُتي به إليه، فقال: “قد أحسنتم، وأجملتم، أرى شيئًا من لحنٍ، ستقيمه العرب بألسنتها، ولو كان المملي من هذيل، والكاتب من قريش، لم يوجد فيه هذا”، ونُسب مثل ذلك إلى عائشة رضي الله عنها، قال السخاوي: إنّ ما نُقل عن عثمان ضعيفٌ، والإسناد فيه اضطرابٌ وانقطاعٌ، ولأنّ عثمان رضي الله عنه جَعل للناس إمامًا يقتدون به، فكيف يرى فيه لحنًا، ويتركه لتقيمه العرب بألسنتها؟ وقد كتب مصاحف سبعة، وليس فيها اختلافٌ قطُّ، إلا فيما هو من وجوه القراءات، وإذا لم يقمه هو ومَن باشر الجمع، كيف يقيمه غيرهم؟!([5])
قال صاحبُ الكشاف: وربما التفت إليه مَن لم ينظر في الكتاب، ولم يعرفْ مذاهبَ العرب فيما لهم من النصب على الاختصاص من الافتنان، وغُبّي عليه أنّ السابقين الأوّلين الذين مَثلهم في التوراة، ومَثلهم في الإنجيل، كانوا أنفذ همةً في الغَيرة على الإسلام، وذبّ المطاعن عنه، مِن أن يتركوا في كتابِ الله ثلمة؛ ليسدَّها مَن بعدهم، وخرقًا يرقعه مَن يلحقُ بهم([6]).
وتأوّلوا ما رُوي عن عثمان وغيره من الصحابة من قولهم: لحن تقيمه العرب، على فرض صحته؛ بأنّ المرادَ به ما حُذف من الحروف خطًّا، كألف الصابرين والصادقين، مما يعرفه القرّاء، وكذا زيادة بعض الحروف، وقد جاء عن عائشة وأُبي وابنِ مسعود أنهم قرأوا: (والْمُقِيمُونَ الصَّلَاةَ)، وهي لا تعدو عن أن تكونَ قراءات شاذة، فلَا تردُّ قِرَاءَة العامة الْمُجْمَعَ عَلَيْهَا.
(وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي مَن آمن أهل الكتاب، ومِن هذه الأمةِ باللهِ واليوم الآخر، وأقام الصلاة وآتى الزكاة (أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا) لأنهم جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح، ولأنَّ مَن آمن مِن أهل الكتاب بنبيِّنا صلى الله عليه وسلم يؤتَى أجره مرتين، قال صلى الله عليه وسلم: (ثَلاَثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ، وَأَدْرَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَآمَنَ بِهِ، وَاتَّبَعَهُ وَصَدَّقَهُ، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أَدَّى حَقَّ اللهِ تَعَالَى وَحَقَّ سَيِّدِهِ، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ فَغَذَّاهَا، فَأَحْسَنَ غِذَاءَهَا، ثُمَّ أَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ أَدَبَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَجْرَانِ)([7]).
(إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا)[النساء:163].
هذا زيادةٌ في الردِّ على مَن سألوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يُنزلَ عليهم كتابًا مِن السماء، فقد ذكرَ القرآنُ قبل هذه الآية في الردِّ عليهم؛ أنهم سألوا موسى أكبرَ من ذلك، وأضافَ هنا تثبيتًا للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أنَّ ما أوْحى الله به إليك، وذكروا أنهم لا يقبَلونه، إلّا أن يُنزل الله عليهم كتابًا من السماء، ما هو إلا كوحيِ الأنبياء من قبلك؛ نوح والأنبياء من بعده عليهم الصلاة والسلام، فأنت يا محمّد كسائرِ الأنبياء قبلك، ومنهم، ولستَ بدعًا من بينهم فيما أُوحي إليك، فلم يبقَ لما طلبوه منك إلّا التعنت والعناد، وذكرت الآية عددًا من الأنبياء والرسل، بدأت بنوح صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أول نبي عُوقب قومُه؛ تخويفًا لهم، ولأنه أول نبي أُرسل إلى قومه، كما ورد في حديث الشفاعة، ثم ذَكرت الأنبياء من بعده، وأعدادهم كثيرة، منهم من قصَّه الله علينا، ومنهم من لم يقصصه، وقوله (وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ) من عطف الخاص على العام، خَص هؤلاء بالذكر؛ اعتناء بأمرهم، فإبراهيم هو الخليل أبو الأنبياء، وإسماعيل بن إبراهيم، وأمه هاجر، أُرسل إلى من كان موجودًا بينهم من قبائل جُرْهم، قال تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا)([8])، وإسحاق بن إبراهيم، وأمه سارة، وكان أُرسل بشريعة إبراهيم مُؤيدًا لها، ويعقوب هو ابن إسحاق، المعروف بإسرائيل، ومعناه: عبد الله، وأُرسل مُؤيّدًا لشريعة إبراهيم، قال تعالى: (وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)([9])، والأسباط، أي الأحفاد، وهم أبناء يعقوب وأحفاد إسحاق، وكانوا اثني عشر ابنًا؛ يوسف وإخوته، فأما يوسف فكان رسولًا إلى قومه من بني إسرائيل في مصر، قال تعالى: (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ)([10])، وباقي إخوته كانوا يَدعون بدعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وكلهم ممن أوحى الله تعالى إليه بنصِّ هذه الآية، على اختلافٍ بينهم في قدرِ الوحي، وعيسى هو آخرُ الأنبياء قبل بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أُمُّه مريم، ومعجزته ظاهرةٌ، فقد وُلد من غير أبٍ، أُرسل بكتابٍ هو الإنجيل، ناسخ لبعضِ أحكام التوراة، وأيوب نبيٌّ ورسول، أُرسل إلى بني إسرائيل، وكان زمانه بين موسى وإبراهيم، ويونس هو ابن مَتَّى، مِن أحفاد بني إسرائيل، أُرسل إلى أهل نَينوَى، وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم متواضعًا: (لاَ يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى)([11])، وهارون أخو موسى، كان ظهيرًا لموسى في رسالته، وعونًا له، وسليمان هو ابن داوُدَ، أعطاه الله النبوةَ والملك، وداود هو أبو سليمان عليهما الصلاة والسلام، أرسله الله إلى بني إسرائيل، فانتصرَ لهم على أعدائهم، وكتابُه الزبور، كتاب مواعظ وتذكير، وهو أحدُ أسفار الكتاب المقدس عند اليهود، والزبور معناه: الكتاب المكتوب، ويجمع على زُبُر، قال تعالى: (بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ)([12]).
(وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا)[النساء:164].
(وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ) في القرآن قبل هذه الآية، في سُوَر أخرى، وهم هود، وصالح، ولوط، وشعيب، ويحيى، وإدريس، واليسع، وإلياس، ومنهم من لم نقصصْ عليك، لم يذكرهم الله تعالى في القرآن، وهم كثيرٌ، وقد ورد في بعض الآثار أن عدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفًا، وعدد الرسل ثلاثمئة وأربعة عشر (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) خَصَّ الله موسى صلى الله عليه وسلم بكلامه، وسُمي الكليم، وكلامُ الله صفةٌ من صفاته، أزليٌّ لا أولَ لهُ كذاتِه، لم يَزلْ متكلمًا، وكلامُه حقيقيٌّ مسموعٌ، لا معنويٌّ ولا نفسيٌّ، لا يُشبه كلام أحدٍ من خلقه، سمعَه موسى صلى الله عليه وسلم بالطور، ونبينا صلى الله عليه وسلم في المعراج، يَتكلمُ سبحانه بما يشاءُ، متى يشاء، كيف يشاء.
(رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا)[النساء:165].
ذكر الله تعالى أن وظيفةَ الرسل البشارة بما أعدَّ الله تعالى للمؤمنين، والنذارة بما توعد به الظالمين، وقوله (رُسُلًا) منصوبٌ على الحال الموطئة، بتأويل مُرسلين، أو منصوبٌ بفعل محذوف، تقديره: أَرسلنا رسلًا (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) اللام متعلقة بأرسلنا المقدَّر، أو بمبشِّرينَ، أي هذه هي الحكمة من إرسال الرسل؛ لقطع العذر عن المكذِّبين، حتى لا تبقى لأحدٍ منهم حجةٌ على الله، فيقول: يا ربّ؛ لو أرسلت إليّ مَن يدلّني عليك لآمنت، فقطعت بذلك حججهم، وقد أخبرَ الله تعالى عن معذرتهم التي قُطعت بإرسالِ الرسل في قوله: (رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ)([13])، ولذلك أعذر الله تعالى مَن لم تبلغهم دعوةُ الرسل، فقال: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا)([14]) (وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) يُعزُّ المؤمنين، ويَخذلُ الظالمين، وكل حُكمٍ حَكَم به هو على مُقتضى الحِكمة.
[1]) البقرة:177.
[2]) البقرة:177.
[3]) خزانة الأدب:5/41.
[4]) كتاب سيبويه:2/66.
[5]) ينظر: النشر في القراءات العشر:1/458ـ459.
[6]) الكشاف: 1/590.
[7]) مسلم: 304.
[8]) مريم: 54.
[9]) البقرة: 132.
[10]) غافر: 34.
[11]) البخاري: 3395.
[12]) آل عمران: 184.
[13]) طه: 134.
[14]) الإسراء: 15.