بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (7)
(غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّآلِّينَ):
هم المُنعَم عليهم، فالجملة صفة للذين أنعمت عليهم.
(غَيْرِ)؛ لفظٌ متوغِّلٌ في الإبْهام، مهْما عُرّف يبقى فيه شيءٌ مِن الإبهام والشمول، كلفظِ "مثل" و"سِوى"، لا تتعرفُ تعريفًا يَحصرُ مَدلولَها، ويُحددُ أفرادَها، فإذا قلت: رأيتُ مثلَك، فإنّه يصلُح لكلّ مثلٍ لك، وإذا قلتَ: رأيتُ غيرَك، يصلُح لكلّ غيرٍ لك، وهو غيرُ محصور، وصحَّ أنْ يوصَفَ بِها (الّذينَ أنعمتَ عَليهِم)، وهو معرفةٌ على التوسُّعِ والتساهلِ؛ لأنّ الموصولَ (الذين) أيضًا اسمٌ شائعٌ مبهَم، وصلتُه (أَنْعَمْتَ عَلَيهِم) مدلولُها شائع كذلك، غير محصور، فهو ـ أي: الموصول ـ لبقائِه على شيوعِه، وعدم حصرِ أفرادِه يوافقُ الصفة (غَيرِ المَغضُوبِ) في شيُوعِها، فهو على حدِّ قولِ القائل:
ولقدْ أمرُّ على اللئيمِ يَسُبّنِي فَمَضيتُ ثَمّت قُلتُ لا يَعْنِينِي[1].
و(المَغضُوب عَليهم) مَن وقع عليهم غضب الله؛ لجحدهم الحق عِنادًا بعدَ معرفتهم إياه.
(الضّالِّين): الضلالُ خلاف الهداية، وهو تنكّبُ الطريقِ الصحيح؛ خطأً كان أو عمدًا، ويدخل في المغضوب عليهم اليهود، دخولا أوليًّا، كما يدخلُ في الضّالين النصارى، دخولًا أوليًّا؛ لورود الحديث بذلك في الفريقين.
و(المَغضوب عليهم) أيضًا ضالّون، إلا أنهم أفسدُ حالًا؛ لتمردِهم على أنبيائِهم، وتبديل شرائعهم، لذا استحقوا مع ضلالهم غضب الله عليهم.
وأدنى درجات الضلال ترك الواجبات الشرعية، وأعلاه الكفر والخروج عن الملة، ولفظه يعمّ كلَّ من اتصف بهذه الصفة، فيدخل فيه أهل كل ملة أخرى ضالّة، خارجة عن ملة الإسلام.
وتكرارُ حرف النفي (لا) مع (الضَّالّين) داخل على الإثبات، يفيدُ تأكيدَ النفي، المستفادِ من (غيرِ المغضُوب)، كما في قوله تعالى: (مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ)[2]، فـ(لا) هنا ليست مثلها في قوله: (ماَ مَنَعَكَ ألَّا تَسجُدَ)[3]، فإنها هناك داخلة على النفي المستفاد من (منع)، فكان نفيًا بعد نفي، ونفي النفي إثباتٌ، أي: ما منَعكَ مِن السجود.
وذَكرَ الضالين بعدَ المغضوب عليهم؛ للتعوذ مِن الضلال مطلقًا، ولو لم يصحبه غضبُ الله، فإن التعوذَ من الأقوَى - وهو الغضبُ - لا يستلزِمُ التعوذَ مِن الأضعفِ.
(آمين): دعاءٌ معناه: استجبْ، وليست آمين من الفاتحة، ولا مِن القرآن، ويجوزُ مدُّها وقصرُها، قال ابن العربي: والقصرُ أفصحُ وأخصرُ، وعليه مِن الخلقِ الأكثرُ، وفي الحديث: (ما حسدَتكُم اليهودُ على شيءٍ مَا حَسَدَتكم على السلامِ والتأمينِ)[4].
وتُطلَب (آمين) في الصلاة مِن كلِّ مُصلٍّ بعد الفاتحة؛ إمامٍ أو فدٍّ أو مأمومٍ، ويجوزُ في الصلاة الجهرُ بها والإسرار، والجهرُ بها يكون جهرًا وسطًا، لا يُخرَج فيه عن وقارِ الصلاةِ إلى الصياحِ.
وقد اشتملت الفاتحة على أقسام التوحيد؛ فدلّ الحمدُ في أولها على توحيد الأسماء والصفات؛ لأن حمده تعالى إنما هو على كمالاتِه، بإثبات الصفات التي أثبتها تعالى لنفسه، أو أثبتها له نبيه صلى الله عليه وسلّم، ودلّ (رَبّ العَالَمِين) على توحيده في ربوبيته، فلا أحد يعطي ويمنع، ولا يضرّ وينفعُ، ولا يرفعُ ويخفضُ إلا هو سبحانه، ودلّ (إيَّاكَ نَعبُدُ) على توحيده في ألوهيته، فلا نِدَّ لَه ولا شريك، ولا معبودَ بحقٍّ سِواه.
والحمدُ مدعاةٌ لرضى الله؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأُكْلَةَ، فَيَحْمَدَ اللَّهَ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ، فَيَحْمَدَ اللَّهَ عَلَيْهَا)[5]، ويؤخذُ منها أنّ مِن آداب الدعاء بدؤُه بحمد الله تعالى والثناء عليه، ووقوعه إثرَ عبادة؛ ليكون أقرب إلى الإجابة، وذلك نأخذه من ترتيب آيات الفاتحة، فإنها ترتبت على أقسامٍ ثلاثة؛ الأول حمدٌ وثناء وتمجيد وتفويضٌ، ثم تخصيصُ الله تعالى بالعبادة وخلوصها له، ثم دعاء بطلب الهداية، والاستقامة على طريق الناجين، الذين أنعم الله عليهم، مِن النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وهوَ سبيل المؤمنين، غير المغضوب عليهم، ولا الضالين.
قال صلى الله عليه وسلم: (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)، قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ)[6].
يمكن تحميل تفسير الاستعاذة والبسملة وسورة الفاتحة ( من هنا ) بصيغة بي دي اف جاهزة للطباعة
[1] أراد بالبيت مدح نفسه، بأنّ هذا خلقه وديدنه؛ يمرّ باللئيم، الذي من صفته أنه يسبُّه، فيعرض عنه، ولا يلتفت إليه، ويقول في نفسه: هذا لا يقصدني بسبه، ولا يتمّ له مدح نفسه بذلك على أبلغ وجه، إلا بأن يكون اللئيم في حكم النكرة، مقصود به واحد لا بعينه؛ لأنه أراد أن تلك سجيته وديدنه، وليست حالة واحدة من لئيم بعينه عرضت له، وهذا الحمل هو ما يناسب (أل) الجنسية في اللئيم؛ لأن مدخولها في حكم النكرة في المعنى، وإن كان لفظه معرفا في الصورة، وبذلك تكون جملة (يسبني) صفة لا حالا؛ لأن الجمل بعد النكرات أوصاف، ويتم للشاعر ما أراد.
[2] [المائدة:19].
[3] [الأعراف:12].
[4] [ابن ماجه:846].
[5] [مسلم:7032].
[6] [مسلم:395، وأصحاب السنن].