المنتخب من صحيح التفسير - الحلقة 20 - تابع سورة البقرة

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

- الحلقة (20)

 

(يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

(يَكَادُ)؛ كادَ: مِن أفعال المُقارَبة، ينتفي معنى الذي بعدها إذا كانت مثبتة، ويثبت إذا كانت منفية، وهنا فعلُها مثبت، لذا فإنّ خطفَ أبصارِهم لم يحصُل بالفعلِ، وإنمَا مَثَلَهم كمثلِ مَن خُطِفتْ أبصارُهم، مِن جراءِ الصواعقِ والبرقِ، فإنّها مهددةٌ بالخطفِ في كلّ حينٍ، وذلك ليستمرَّ حالُهم على الخوفِ والفزعِ.

و(يَخطَفُ)؛ مِن الخطفِ، وهو انتزاعُ الشيءِ بسرعة.

(كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا)؛ فحالةُ مَن شُبّهوا بهم في الحيرةِ المستمِرةِ والخَوف الدائمِ، كحالِ مَن إذا انْقَدَحَ لهم قادحُ البرقِ أبصَرُوا موضعَ أقدامِهم، وإذا انقطَع عنهم رجَعُوا إلى ظلمتِهم، لا يهتدونَ سبيلًا، ولا يُبصرونَ طريقًا.

(وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ)؛ هذا رجوعٌ إلى وعيدِ المنافقين، وخصّ السمعَ والبصرَ بالتوعدِ لتقدُّمِ ذكْرِه، وأنّه لمّا كانت أسماعُهم صمًّا عن الهِدايةِ، وأبصارُهم عُميًا عن الحقِّ؛ استحقَّت الوعيدَ والتهديدَ بذهابِها.

(إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)؛ وَصْفُ اللهِ تعالى نفسَه هنا بالقدرةِ، مُناسبٌ لِما تقدّم مِن الوعيدِ والإحاطةِ، في قولِه: (واللهُ محيطٌ بالكافِرِينَ)، فإنّ المتوَعِّدَ لهم هو مَن قُدرتُه أتَت على كلِّ شيءٍ، ولا يُعجزُه شيءٌ، وهو علَى كلِّ شيءٍ قديرٌ.

وقوله: (مَثَلُهمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوقَدَ نَارًا) مثالٌ آخرُ؛ ضربَه اللهُ تعالى لحالِ المؤمنينَ مع المنافقينَ والمكذبينَ، فبالإضافةِ إلى المثالِ السابق لحالِ المنافقِ، وتشبيهِهِ بمَن استوقَدَ نارًا، وما أنْ فرحَ بها حتّى انطفأَتْ عليه، وتركتهُ في ظلامٍ دامسٍ؛ يصوّرُ حالَهم معَ المؤمنينَ في صورةٍ أخرى بالمطرِ الغزيرِ، الذي ينهمِرُ هاطِلًا، في ليلةٍ ظلماءَ مُوحشةٍ، تضاعفَت وحشَتُها بقاصفِ رعدٍ يصكُّ المَسامِعَ، وقادِحِ برقٍ يَخطفُ الأبصارَ، وصواعقَ مُرسَلَةٍ تحرقُ الأبدانَ، يأتِي أهلَها الموتُ، ويُحاذرونَه مِن كلّ مكانٍ، فمِن الناسِ - في هذا المشهدِ المروّعِ المخيفِ - مَن هو آمِنٌ، له مَأوًى يأوِيهِ ومكانٌ يحمِيهِ، وفي الصباحِ؛ عندَ ذهابِ الظلمةِ، وانقشاعِ الدُّجنةِ، يحمدُ هذا الآمِنُ ليلَتَه؛ لانتفاعِه بالغيثِ، دونَ أن يُصيبَه مِن أهوالِ ليلتِه وظلمتِهَا بَأسٌ.

وهذا هوَ مَثَلُ المؤمنِ، الذي انتفَعَ بالقرآنِ وهَدْيِ الإسلامِ، وغيثِ الإيمانِ؛ فكانَ آمِنا مُطمئنًّا إذَا أصابَ الناسَ الفزَعُ.

ومِن الناسِ فريقٌ آخر، في تلك الليلة الظلماء كانوا بالعراء، تحتَ الوابلِ الهاطِلِ من السماءِ، والبرق الخاطفِ للعيونِ والأبصارِ، ومَا أنْ يخطُوا خُطوةً في ظلامِه الحالكِ، على نورِ البرقِ الخاطفِ؛ حتّى يَنطفِئَ النورُ، فتزدادُ عليه الظلمة والحيرة، (وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا)، فلَا يملِكونَ سِوى أنْ يسدُّوا أذانَهم بالأصابِع، كمَا كانَ حالُهم حينما يُتلى عليهم القرآن، ويبلّغون هديَ الإسلام، قال الله تعالى عن أمثالِهم: (جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ)[1]، وقال أيضًا: (أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْه)[2]، وقال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ)[3]، فهذا مِثال المنافقِ المكذّبِ، الذي انتفعَ غيرُه بالغيثِ والهدايةِ، وأصابَه هو مَا صَحبَ الغيثَ مِن الظلمةِ، والخَوف مِن الصواعقِ، وخَطف الأبصارِ.    

 

 


[1] [نوح:7].

[2] هود:5].

[3] [فصلت:26].

التبويبات الأساسية