المنتخب من التفسير -الحلقة 215- سورة النساء

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

الحلقة (215)

 

(وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا)[النساء:2-3].

(وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ) أعطوا اليتامى([1]) أموالهم، والضمير في (أَمْوَالَهُمْ) بجمع المذكر، مع أن اليتيم يطلق على الأنثى، من بابِ التغليب، واليتيم هو مَن ماتَ أبوه قبل بلوغ الحلم، فلا يُتْمَ بعدَ البلوغِ، ولا يُتم بفَقد الأم، ومعنى اليتيم يرجعُ إلى الانفراد، وانفرادُه يرجع إلى فقدِ من يسنده ويعينه، فإذا قيلَ قصيدةٌ يتيمةٌ، أو الزيارة اليتيمة، فمعناه الوحيدةُ التي ليس معها غيرها، ولم تتكرّرْ، وكذلك اليتيم الذي فَقدَ أباه، انفرد وصار وحيدًا، ليس له مَن يرعاهُ ويدفعُ عنه؛ لأن الصغير يكونُ عادةً في رعاية أبيه، فإذا فقده صارَ وحيدًا.

والأمرُ بإيتاءِ اليتامى أموالهم لازمٌ منه رشدهم، فهو محمولٌ على ما بعد الرشد؛ لأنّهم قبل بلوغ ذلك ممنوعون منها بقوله: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ)([2])، وهذا اللزوم مما يعرف عند الأصوليين بإشارة النص، وعُبر عنهم باليتامى بعد البلوغ والرشد؛ تذكيرًا بالضعف الذي كانوا عليه، حتى تحصلَ الشفقةُ عليهم، والمبادرةُ بتسليم أموالهم إليهم، أما إيتاءُ الأموالِ قبلَ الرشدِ، فيحملُ على المحافظة على المالِ وصيانته، وعدم التعرضِ له، والتعدّي عليه، أو إهماله، حتى إذا ما خرجُوا مِن اليتم، سُلمت إليهم محفوظةً وافرةً؛ كما قال تعالى بعدَ هذه الآية: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ).

 (وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) الطيب: الحلال الذي تميلُ إليه النفس، والخبيث: الحرام الذي تنفرُ منه، والباءُ المتعلقة بفعلٍ مادتُهُ الاستبدالُ والمعاوضةُ، الغالبُ والكثيرُ دخولُها على الشيء المتروكِ المبذول؛ كما في هذه الآية، لا على المأخوذ المرغوب، وقد تدخلُ على المأخوذ، كقولك: بعتُ الثوبَ بدرهم.

نهاهمُ اللهُ أن يتركوا أكلَ الطيب الحلال مِن كسبِهم، ويأخذوا بدلَه مالَ اليتيم، الذي وُلوا واؤتُمنوا عليه، وهو عليهم حرامٌ خبيثٌ (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا) نهوا عن أكلِ أموال اليتامى، والمراد ما هو أعمُّ من الأكل، وهو الأخذُ والانتفاع مطلقًا، وعبر عنه بالأكلِ؛ لأنه أقوَى الأغراضِ التي يجمعُ لها المال، وعُدّي (تأكلوا) بـ(إلى) لتضمينه معنى تضمّوا؛ ليشملَ النهيُ مَن أكلَ معتديًا وليس له مالٌ، ومَن أكله معتديًا وهو غني، بضمِّ مالِ اليتيم إلى ماله، وصورتُهُ أقبحُ مِن صورة المحتاج (إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا) الجملةُ واقعةٌ موقعَ التعليل، والحُوب: الإثمُ، ولما كان ضمّ أموالهم إلى أموال اليتامَى لأجلِ أكلِها مِن الإثم العظيم، امتنعَ الناسُ من كفالةِ الأيتام؛ لصعوبة التحرّز من مخالطةِ الأموال، فنزلَ قول الله تعالى في سورة البقرةِ: (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ)([3]) مبينًا أنّ الحرامَ هو الاعتداءُ عليهم بأكلِ أموالهم، وليسَ خلط مالهم بمالِ الوليّ للرفقِ بهم.

(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا([4]) فِي الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ) كان الرجل إذا كان عنده يتيمةٌ ذاتُ جمالٍ ومالٍ تزوجَها، دون أن يعطيَها مهرَ مثلها، وإن كانت تحته يتيمةٌ ليس لها مالٌ ولا جمالٌ، رغبَ عنها، وهذا ليس مِن القسط والعدل، فأمرَهم الله بالقسط، وقال لهم: إن خفتم ألا تعدلُوا في نكاح اليتيمة، وتبلغوا بها مهرَ مثلها، فَانكِحُوا ما رغبتم وطابَ لكم من النساء غيرهن، ووَضّحَ هذا سببُ نزولِ الآية، فقد جاء في صحيح البخاري: أن عروة بن الزبير سأل عائشة عن هذه الآية، فقالت: “يَا ابْنَ أُخْتِي، هِيَ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حَجْرِ وَلِيِّهَا تُشَارِكُهُ فِي مَالِهِ، فَيُعْجِبُهُ مَالُهَا وَجَمَالُهَا، فَيُرِيدُ وَلِيُّهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ فِي صَدَاقِهَا، فَيُعْطِيهَا مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ، فَنُهُوا أَنْ يُنْكِحُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ، وَيَبْلُغُوا بِهِنَّ أَعْلَى سُنَّتِهِنَّ مِنْ الصَّدَاقِ، وَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ، قَالَ عُرْوَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ: ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، فَأَنْزَلَ اللهُ: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى ٱلنِّسَآءِ) إِلَى قَوْلِهِ: (وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ)([5])، وَالَّذِي ذَكَرَ اللهُ أَنَّهُ يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ، الْآيَةُ الْأُولَى الَّتِي قَالَ فِيهَا: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ)، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَقَوْلُ اللهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: (وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ) يَعْنِي هِيَ رَغْبَةُ أَحَدِكُمْ لِيَتِيمَتِهِ الَّتِي تَكُونُ فِي حَجْرِهِ حِينَ تَكُونُ قَلِيلَةَ الْمَالِ وَالْجَمَالِ، فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا رَغِبُوا فِي مَالِهَا وَجَمَالِهَا مِنْ يَتَامَى النِّسَاءِ إِلَّا بِالْقِسْطِ؛ مِنْ أَجْلِ رَغْبَتِهِمْ عَنْهُنَّ”([6]).

فكان ذلكَ نهيًا لهم، وتقريعًا على فعلِهم في نكاحِ اليتامى، الجميلة ينكحونها ويأخذونَ مالها، وقليلة المال والجمالِ يرغبون عنها ويعرِضونَ، فقال لهم: ليس من القسط رغبتُكم عنهن إذا كنّ قليلاتِ المال، ورغبتكم فيهنّ إذا كن جميلات لهن مال؛ لتأخذوا مالهنّ، ولا تبذلوا لهنّ مهرَ أمثالهنّ.

وقوله (فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ) الأمر للإباحة، و(مَا طَابَ لَكُم) ما رغبتم واستحسنتُم، وطابتْ ومالتْ إليه نفوسُكم، وأتي بـ(مَا) الموصولة دونَ (مَن) التي للعاقل؛ لأنّ المراد الصفة التي عليها مَن تُرغب مِن النساءِ دون تعيينٍ لذاتِها، ولو قيل: مَن طابَ، لدلّ على الأمرِ بنكاحِ نساءٍ معيناتٍ موصوفاتٍ بالحسنِ، وهو غير مرادٍ، و(مِن) في قوله (مِّنَ النِّسَاءِ) للتبعيضِ، و(مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ) أي: اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، ومقابلة الجمع في قوله: (فَانكِحُوا) بالجمع في قوله: (مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ) تقتضي القسمة آحادًا على التوزيعِ والتنويع، أي: فلكلِّ واحدٍ ممن يريدُ التعددَ أن ينكحَ ما شاء من العددِ المذكور، متفقًا مع غيره أو مختلفًا معه، كقولك: اقتسِمُوا هذا المالَ درهمين درهمين، وثلاثةً ثلاثةً، فإنه يفيدُ الإذنَ بأن يعطوا البعضَ درهمين، والبعضَ ثلاثةً، حسب ما يرونه يصلحُ لهم.

وهذه فائدةُ تكريرِ العددِ اثنين اثنين وثلاث ثلاث، المفهوم من قوله: (مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ)، أي منكم مَن يتزوجُ اثنين؛ لأن قدرته على العدلِ تقفُ عندَ ذلك، ومنكم مَن ينكح ثلاثًا، ومنكم مَن ينكحُ أربعًا، ولو أفردتِ الأعدادُ، كأنْ يقال في خطاب مَن يريد النكاح: انكح اثنين وثلاثًا وأربعًا من الزوجات، لكان المعنى: أنّ للشخصِ الواحد الجمعَ بين هذه الأعدادِ كلِّها دون التوزيع، وعطفتِ الأعداد بالواو دون (أو)، إذ لو عطفت بـ(أو) لذهبتِ فائدة تجويزِ الاختلافِ في العدد، ولدلَّتْ على أنّ على الجميعِ أن يستوُوا فيما يختارونَ من العددِ.

 

 

[1]) اليتامى جمع، مفرده يتيم للذكر والأنثى، ويقال للأنثى أيضا يتيمة، ويجمع على يَتمى ويَتامى، كأسير وأَسرى وأَسارى، وعلى فِعال وفُعلاء، ككَرِيم وكِرام وكُرماء، وعلى فُعُل، كنذير ونُذُر.

[2]) النساء:6.

[3]) البقرة:220.

[4]) قَسَطَ يَقْسُط قَسْطًا: جار، قال تعالى: (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا)، وأَقْسَط يُقْسِط قسطا: عَدَل، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).

[5]) النساء:127.

[6]) البخاري:2494.

التبويبات الأساسية