المنتخب من صحيح التفسير -الحلقة 193 - تابع سورة آل عمران

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

– الحلقة (193)

 

(وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)[آل عمران:133-135].

(وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ) بادرُوا إلى ما يوصلُكم إلى المغفرة، أو سارعُوا إلى الخروجِ إلى الجهادِ إذا دُعيتم إليه، والجهادُ ذاتُه ممّا يوصلُ إلى المغفرة؛ فإنه يغفرُ به كل شيء إلا الدَّين، فقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلَّا الدَّيْنَ)([1]) (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) العُرض بالضم: الجهة، ومنه الحديث: (لَقَدْ عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفًا، فِي عُرْضِ هَذَا الْحَائِطِ)([2]) أي جهته، والعَرض بالفتح: خلاف الطول، ومعنى (عرضُها) سعتُها ووسعُها، وذلكَ مبالغةً في وصفِ الجنة بأنها بلغتِ الغايةَ في السعةِ والفخامةِ، فلا يعارضُ بما جاءتْ به السنةُ، مِن أنّ الجنة في السماء؛ لأنّه لو حملَ عرضها على العَرض المخالفِ للطولِ، لصارَ عرضُها في وسعِ السماواتِ والأرضِ، ولأَدّى إلى أنّ طولها أكبرُ مِن السمواتِ والأرضِ، فكيفَ تكونُ فيها كما ذكر الحديث؟ (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) هُيئتْ وتزيّنتْ للمتقين، وفي التعبير بالماضي (أُعِدَّتْ) ما يدلّ على أن الجنة مخلوقةٌ موجودةٌ الآن، والمعنى: أقبِلوا وبادروا إلى ما يوصلُكم إلى مغفرةِ ذنوبِكم، ومرضاةِ ربكم، مِن الجهادِ والأعمال الصالحة، والتوبةِ مِن الذنوب، وتركِ النفاقِ، فذلك هو السبيلُ إلى جنةٍ واسعةٍ فسيحةٍ، في وسعِ السماواتِ والأرضِ، هُيئتْ وأعدتْ للمتقين (الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) بعد أن ذكر الترغيب في الجنة بالأعمال الصالحة، ذكر صفةَ أهلِها؛ ليزدادَ الشوقُ إليها، ومضاعفة الجهود بالإعمال الموصلةِ إليها، فذكر من صفاتهم الإنفاقَ في السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، في العسرِ واليُسر، في المنشطِ والمَكرهِ، لمن نحبّ ومَن لا نحبُّ، في الصحةِ والمرضِ، في رواجِ التجارةِ وفي كسادِها، وفي كلِّ الأحوالِ؛ لأنّ مَن كان إنفاقُهُ كذلكَ كانتْ مرضاةُ اللهِ وحدَها بُغيتَهُ، وكان البذلُ والعطاءُ له خلقًا، لا يحولُ بينه وبينهُ حائلٌ (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) ومِن صفاتهم كذلك كظمُ الغيظِ والغضبِ الشديدِ، وكبحُه وإمساكُه وإخفاؤه؛ فلا يظهرُ منه شيءٌ مع الضيقِ به وامتلاءِ الصدر منه، فالكظمُ: مِن كظَمَ القربة؛ إذا مُلئت وربطَ عنقُها فلا يخرجُ منها شيءٌ، وهو غايةٌ في الجلَدِ وإظهارِ القوةِ وصلابةِ الإرادة؛ لأنه سيطرةٌ على أشدِّ شهواتِ النفس إلحاحًا، لذا قال صلى الله عليه وسلم: (لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ(([3]) (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) ومِن صفاتهم العفوُ عن الناس، والمعنى: أنّ ما هم عليهِ من كظمِ الغيظِ ليسَ بعده ندمٌ، يُترصد به وقت آخر للانتقام وتصفيةِ الحسابِ، بل يُتبعُون كظمَ غيظهم بالصفحِ؛ ليكونُوا ممن يحبّهم الله سبحانه (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

(وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ)[4] فَاحِشَةً: من الفحش، وقد تقدم، وهو: تجاوز الحدِّ في الفسادِ، والفحشُ يطلق على المستقبح الذميم مِن الأقوال والأفعال، فمِن الأول ما جاء عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم: (لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا)([5])، ومن الثاني قول الله تعالى: (قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ)([6]) (أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) أو للتنويعِ، عاطفة؛ فعلُوا هذَا أو هذَا، وظلمُ النفسِ يكونُ بارتكابِ الكبائرِ؛ لأنه سببٌ في إيلامِها بالعذابِ، وعطفُه على الفاحشةِ يشعرُ بأنه نوعٌ آخر غيرها، وعليه يمكن حملُ الفاحشة على الزنا خاصةً، وظلم النفس على الكبائر عامةً، فيكون من عطف العام على الخاصّ، كما في قوله: (وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ)([7])، أو أن تحمل الفاحشة على الكبيرة المتعدية للغير، وظلم النفس على الكبيرة القاصرة على صاحبِها (ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) ذكرُ الله النافعُ هو مَا تواطأَ فيه القلب مع اللسان؛ لأنّ من ذكر الله تعالى بقلبه ارعوى وكفَّ، وتفريع (فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) بفاء التفريع عن جملة (ذَكَرُوا اللهَ) يشعر بأنهم ذكروا الله بقلوبهم، لا مجرد ذكر اسمه بأفواههم، ويكونُ استغفارهم ليس قاصرًا على الاستغفار باللسانِ، بل ما يشملهُ ويشمل الكفّ بالندمِ والرجوع، أي: ذكروا الله في قلوبهم، فكفُّوا عن ما يخالفُ أوامرهُ (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) الاستفهام إنكاري، بمعنى النفي، لذا صح بعده الاستثناء، و(أَل) في الذنوب للجنسِ تفيدُ العموم، أي: لا يغفرُ الذنوبَ جميعًا إلّا الله، فهو واسعُ المغفرةِ، رحمته وسعتْ كل شيءٍ (وَلَمْ يُصِرُّوا) الإصرار: الإقامة على الشيء وعدم التحولِ عنه، والمعنَى أنهم لا يقيمونَ على ما فعلوا مِن القبيح، دون استغفارٍ ورجوعٍ بالتوبة، أي شأنهم الإقلاع وترك الذنب، وجملة (وَلَمْ يُصِرُّوا) حالية، وكذلك جملة (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي: مِن أحوالهم أنهم لا يصرونَ على الذنبِ، فمن صفات المتقين -إذا أذنبوا- الندمُ والتوبة والرجوع إلى الله، والإقلاعُ عن الذنب، وعدمُ الإصرار عليه، فإذا فعلوا ذلك شملتْهم مغفرةُ الله ورحمتُه الواسعةُ، وفي الآية دليلٌ على أنّ مَن تابَ مِن الذنب ورجع وصدقتْ توبتُهُ، كان في عِدادِ المتقين، حتى لو كان ذنبهُ قبل التوبةِ مِن الفواحش وكبائرِ الذنوب.

 

 

[1]) صحيح مسلم: 1886.

[2]) صحيح مسلم: 2359.

[3]) صحيح البخاري:6114، وصحيح مسلم: 2609.

[4]) جملة (وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً) يصح أن تكونَ مستأنفةً مبتدأ، وخبرها (أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ) في الآية التي تليها، ويصحّ أن تكونَ (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً) معطوفة على قوله: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) وتكون جملة (أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ) بيان للمعطوف والمعطوف عليه.

[5]) صحيح مسلم:2321.

[6]) الأعراف:28.

[7]) آل عمران: 84.

التبويبات الأساسية