المنتخب من صحيح التفسير - الحلقة 41 - تابع سورة البقرة

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

- الحلقة (41).

 

(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ): القومُ في عامةِ إطلاقاتِ اقرآنِ يرادُ بهم الأهلُ والعشيرةُ، وقومُ الرجلِ: قَرابتُه الذين يجتمعونَ معه في أجدادِه.

وأصلُ الكلمةِ في اللغةِ مِن القَوامةِ، قال تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ)[1]، لذا جاءت في القرآن أحيانًا خاصةً بجماعةِ الرجال دون النساء، كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ)[2]، فجعل القوم مقابل النساء.

ومنه قوله تعالى: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ)[3]، وقول الشاعر:

وَمَا أَدْرِي وَلَسْتُ إِخَالُ أَدْرِي       أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ   نِسَاءُ

ويُطلق القوم على الرجال والنساء معًا، وهو الكثيرُ في القرآن، قال الله تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ)[4].

والأنبياءُ في القرآن جميعًا أُرسلوا إلى أقوامهم مِن الرجالِ والنساءِ عامةً.

والمُراد بقوم موسى في الآيةِ عبدةُ العجلِ، مِن الرجالِ والنساءِ، وكانت مخاطبتُه عليه السلام لهم بأمرٍ مِن الله تعالى؛ لأنّ أمرَهم بقتلِ أنفسِهم لا يكونُ منه عن اجتهادٍ.

(إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ): الظلم وضعُ الشيءِ في غيرِ موضعِه، وكلّ مَن فعلَ بنفسِه ما يضرّ به فهو في الحقيقةِ إنّما ظلمَ نفسَه، أي: لم يُسئْ إلّا إليها؛ لأنّ الله تعالى منزّه عن أذاهم، لا يضرّه شيءٌ مِن ظُلمهم، والمراد بالظلم في الآيةِ الكفرُ؛ لأنه مقيدٌ بعبادة العجلِ، وفي البخاري: (باب ظلمٌ دونَ ظلمٍ) وذكرَ عنِ ابن مسعود رضي الله عنه قال: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّهُ لَيْسَ بِذَاكَ، أَلَا تَسْمَعُ إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ لِابْنِهِ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)[5]، فبيّنَ أنّ المرادَ بهِ الشركُ.

وقوله: (أَنْفُسَكُمْ) جمع نفس، وهو جمعُ قلةٍ أريدَ به الكثرةُ؛ لأنّ القلة لمَا بينَ الثلاثةِ إلى العشرةِ، والكثرة لِمَا فوق العشرةِ دونَ حدّ، وقد توضعُ القلةُ في الجموع موضعَ الكثرةِ، ومنه قولُه تعالى: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ)[6]، كما توضعُ الكثرةُ موضعَ القلة، كما في قوله: (ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ)[7]، فالقُرءُ محدَّد في الآيةِ بثلاثة، وهو على وزن فعول للكثرة، والمراد بالأنفس ذواتهم.

(بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ) العجلُ ولدُ البقرةِ، وقد اتخذُوا ما عَبدُوه على صورتِه مِن الذهب، والباء للسببية، ظلمتم بسببِ عبادتكم العجل.

(فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) البارئُ: الخالق، لكن خلقٌ مع صنعة وإبداع، فالبارئ أخص من الخالق، ولذلك ذكر عقبه في قوله تعالى: (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ)[8]، فقوله: (فتوبوا إلى بارئكم)، أي: ارجعوا عما أنتم عليه إلى عبادة الله، وتوبوا إلى مَن أحسن إليكم بخلقكم في أحسنِ صورة، وقد شرط الله تعالى لتوبتِهم أن يقتلوا أنفسهم، أي: يقتل بعضُهم البعضَ الآخر، على حدّ قوله تعالى: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ)[9]، أي: فليسلم بعضُكم على بعضٍ، وقد فعلوا ذلك تحصيلا للتوبةِ التي أُمروا بها، ثم لمّا فعلوا ذلك، وظهرَ صدقُهم بكثرة مَن قُتل منهم؛ سألَ موسى ربّه لهم العفوَ، فعَفَا عنهم.  

(ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ): (ذلكم) الإشارة إلى التوبة بقتل أنفسهم، (خير) أفعل تفضيلٍ على غيرِ بابِه، إذ ليس لهم شيءٌ مِن الخير إلا بهذه التوبة الكاملة بقتلِ أنفسهم؛ لأنه لو كان أفعلُ التفضيل (خير) على بابِه، لحصلت لهم توبة ناقصة مع عدم قتل أنفسهم، والخيرية الحاصلة لهم بالتوبة عفوُ الله تعالى عنهم في الدنيا، بنسخ التكليف الشاق عليهم بقتل أنفسهم، ودخول الجنة في الآخرة، لمَن قبل الله توبته.

(فَتَابَ عَلَيْكُمْ): الفاء تفيد التعقيب دون تراخٍ، أي: لمّا فعلتم ما أُمرتم به تُبتُ عليكم، وجاءكم العفو قريبًا دون طول انتظار، فالكلام هو للباري عزّ وجلّ على طريقِ الالتفات، ولمّا كانت هذه منةً مِن الله عظيمة عليهم، جاء وصف الله تعالى بعدَها بالرحمة وقبول التوبة على صيغةِ المبالغة، فقال: (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

 

 

[1] [النساء:34].

[2] [الحجرات:11].

[3] [الأعراف:80].

[4] [نوح:1].

[5] [البخاري:4498، ومسلم:124].

[6] [الزخرف:71].

[7] [البقرة:228].

[8] [الحشر:24].

[9] [النور:61].

التبويبات الأساسية