المنتخب من صحيح التفسير -الحلقة 199- تابع سورة آل عمران

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 

 الحلقة (199)

(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَىٰ أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِّكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[آل عمران:152-153].

(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ) تحسّونهم: من الحَسّ بفتح الحاء، القتل الكثير الشديد، ويقال حسَّهُ إذا أبطلَ حاسته وأمَاتَه (بِإِذْنِهِ) بتقدير الله ومشيئته (حَتَّى إذا فَشِلْتُمْ) الفشل: الوهن والضعف، و(حَتَّى) يصحّ إن تكون حرف جر بمعنى الغاية، التي تنتهي إليها القدرة على قتلهم، و(إذا) ظرف زمان خالٍ عن الشرطية، فلا تحتاج إلى جواب، أي: مكَّنكم الله منهم بالقتل، ودامَ لكم ذلك، إلى أن تنازعتم وانقسمتم، وانتهت قدرتكم على قتلهم وفشلتم، وأصابكم الوهن، ويصحّ أن تكون (حَتَّى) ابتدائية، دخلت على جملة شرطيةٍ مستقلةٍ عمّا قبلها، ويكون جواب (إذا) الشرطية محذوفًا، والتقدير: صدقكم الله وعده بالنصر، وتحققَ لكم ذلك، حتى إذا ما فشلتم وتنازعتم غُلبتم وانكسرتم (وَتَنَازَعْتُمْ) وقع الخلاف بينكم، وسببه أن الرماة كانوا زهاءَ خمسين، وكان قد رتبَ لهم النبي صلى الله عليه وسلم أماكنهم في أعلى الجبل، يحمون ظهور المسلمين، وينضحون بالنبل في وجهِ خيلِ العدو، فلا يتقدم، وصَفّ باقي الجيش من أسفل الجبلِ يضربونهم بالسيف، وقال للرماة: (لاَ تَبْرَحُوا، إِنْ رَأَيْتُمُونَا ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ فَلاَ تَبْرَحُوا، وَإِنْ رَأَيْتُمُوهُمْ ظَهَرُوا عَلَيْنَا فَلاَ تُعِينُونَا)([1])، أي: وابقوا في أماكنكم، فلما رجحت الكفة للمسلمين، وتقهقر العدو، وخلف وراءه الغنائم، تنازعَ الرّماةُ، فمنهم مَن رأى أن لا فائدة من بقائهم في أماكنهم، والعدوّ قد انهزم، والغنائم تجمع، ورأى أنْ يأخذ حظه مِن الغنائم، ومن رأى ذلك كانوا أكثرهم عددًا، فتعرضوا لهذا الابتلاء، كما ذكرت الآية (لِيَبْتَلِيَكُمْ) وهو ابتلاءُ اتخاذ القرار في اللحظاتِ الحاسمةِ، بين الطاعة المطلقة لأمرِ النبي صلى الله عليه وسلم، أمرِ القائد في الحربِ الذي وضعَ خطته، وقال لهم: لا تبرحُوا أماكنكم، وبين إعمالِ الرأي الذي اغتر بما رآه مِن ظاهر الحال، وهو يشاهدُ هزيمةً حقيقيةً للعدو، ووقوعه تحت تأثيرِ نوازعِ النفسِ البشرية، وما تحبه مِن متاعِ الدنيا، وجمعِ الغنائم، فكان ميلهم أن رجحوا ما أحبته نفوسُهم من النصر والغنيمةِ، على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبقاء على ما هم عليه، فوصفَ القرآنُ ما وقع منهم بأنه معصيةٌ؛ لأنه كان اجتهادًا في مقابلِ النصّ، ما كان لهم أن يختاروه، وبالأخصّ عندما يكون مقترنًا بالرغبةِ في متاع الدنيا، فلامَهم القرآنُ على ذلك بقوله: (وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ) مِن النصر على العدوّ والغنائم، وبقوله: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا) وكان اجتهادهم الخاطئُ سببًا في انكسارِ المسلمين، فوجد خالد بن الوليد – وكان على جيشِ المشركين – الطريقَ آمنًا، فالتفَّ على المسلمين من وراء ظهورِهم، التي كانت محميةً بنبلِ الرماة (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) هذا هو الفريق الثاني من الرماة، وكانوا الأقل، لا يزيدون على العشرة، قالوا: أمرَنا النبي صلى الله عليه وسلم أن لا نترك أماكننا، فلا نتركها، وثبتوا، فمدحَهم بأنهم أرادوا الآخرة، وأعرضُوا عن الدنيا، وكان معهم الذين انحازوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، يردُّون عنه العدوّ (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) ثم كفَّكُم عنهم، فلم تنضحوا بالنبل كما أمركم النبي صلى الله عليه وسلم، وخالفتم أمره، فغلبوكم (لِيَبْتَلِيَكُمْ) الابتلاء: الامتحان والاختبار، أي: ليعاملكم الله معاملةَ مَن يُمتحَن؛ ليتبين مَن ينجحُ بالثباتِ والطاعةِ ممن يسقطُ بالمخالفة والعصيان (وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ) بعد أن لامَهُم عجّلَ لهم البشارة بأنه عفَا عنهم؛ لأنّ ذلك لم يكنْ منهم عن نفاقٍ، أو خيانةٍ للمسلمين، أو شكٍّ في إيمانهم، وإنما كان عن اجتهادٍ ضعيفٍ خاطئٍ، في مقابل أمرٍ مِن الوحي صريح، ما كان لهم أنْ يتركوه لاجتهادهم، ولذا جاء العفوُ هنا بعد اللوم، بخلافِ خطابِ الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم حين أَذنَ للذين تخلفوا، فإنّه قُدّم فيه العفوُ قبل اللوم، فقال: (عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ)([2])؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أوْلى بالعفوِ في إذنهِ مما فعلهُ أصحابُه في أُحد (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) يتفضل على المؤمنين بالعفو، إذا علم ندمَهم وصدقَهم، وهو عفوٌ مقرونٌ بشهادةٍ وتزكيةٍ لهم بالإيمان.

 (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَىٰ أَحَدٍ) إِذْ: ظرف زمان متعلق بـ(ثُمَّ صَرَفَكُمْ)، و(تُصْعِدُونَ) مضارع بمعنى الماضي أَصعَدَ؛ لإضافته لـ(إِذْ)، والهمزة فيه للدخول، أي: إذ دخلتم في الصعود، كالهمزةِ في أصبحَ إذا دخلَ في الصباح، والصعود: الذهاب، والمراد الذهابُ والمضيُّ في الأرض بعيدًا، ومنه تسميةُ الأرضِ بالصعيد، وكان ذلك حين خوفِهم وتفرقِهم، فصعودهم هو فرارهم في الوادي، ماضين على وجوههم (تَلْوُونَ) من لَوَى بمعنى التفتَ، والمصدر اللّيّ؛ الرحمة والرفق، لا يلوي بعضكم على بعضٍ، لا يلتفتُ إليه، ولا يرفقُ به، ولا يرجعُ إليه، كلٌّ شغله أمر نفسه عن الرفق بأمرِ إخوانه، والمعنى: لقد صرفكُم اللهُ وكفَّكُم عن المشركين، حينَ كنتم مُصعِدِين مدبِرِين في الوادي، حينَ انكَفأَ عليكم العدوّ، واشتدَّ الأمر، وكان كلُّ أحدٍ مشغولًا بنفسه، لا يلتفتُ ولا يرفقُ بغيره (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ) جملة حالية، والحالُ أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يناديكم وأنتم مُدبرون، يناديكم في أُخراكُم، ينادي مَن كان يصلُ إليه صوتُه مِن الساقة، الذين كانوا هم أخراكم، في مؤخرةِ الجيشِ، يناديهم: (إليَّ عبادَ الله، إليّ عباد الله، أنا رسولُ الله)([3]) وكان قد أشيعَ أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد قُتلَ، فَحاصَ الناسُ وتفرقُوا، فلما سمعُوا صوتَه اجتمعَ إليه نفرٌ مِن أصحابهِ، كان على رأسِهم طلحةُ بن عبيدِ الله، يردُّ عنه النبلَ ببدنهِ، يسترهُ مِن العدو، وممن ثبتَ يومَها أنس بنُ النضر، كان يسير بين الناس حين أُشيعَ قتلُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ويقولُ: “إنْ كانَ قد قُتلَ فما تصنعونَ بالحياةِ بعده” (فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ) عطف على (تُصْعِدُونَ) لأنها بمعنى الماضي – كما تقدم – لاقترانها بـ(إِذْ)، و(أَثَابَكُمْ) جازاكُم وعاقبكُم، والفاعل ضمير يعود على لفظ الجلالة، والغمّ: الحزن والضيق، والباء فيه للمصاحبة، أي: فعاقبكم الله وجازاكم على عصيانكم – بالتخلي عن النبي صلى الله عليه وسلم – غمًّا بغمٍّ، أي: غمًّا مع غم، مضاعف متصل بعضه ببعضٍ؛ لعصيانكم أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وترككم له في قلٍة مِن أصحابه، والغمُّ الأول: ما أصابهم من القتل والجراح، والغمُّ الثاني: الخوفُ والإرجاف والاضطراب من الكذب الذي أشيعَ، بأنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم قُتل، وغلبة العدوِّ عليكم بعد ما كانت الغلبةُ لكم (لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ) أي: أصابكم الضرُّ، وابتليتم بالغم وغلبة العدو؛ لكي تعلموا أنّ الحرب سجالٌ، كرٌّ وفرٌّ، وأخذٌ بالأسباب، فتعتادوا على مثله، فلا تغتموا فيما بعدُ على نفعٍ فاتكم، ولا ضرٍّ لاحقٍ، فكثير مما يصيبُكم هو من عند أنفسكم، كما وقع لكم في أُحد (وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) عليم بأعمالكم فيجازيكم.

[1]) البخاري: 4043.

[2]) التوبة:43.

[3]) الطبري: 6/99.

التبويبات الأساسية