بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (93).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَىٰ بِالْأُنْثَىٰ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:178-179].
الخطاب في الآية للمؤمنين في أحكام القصاص، وهي من أوائل الآيات نزولا في المدينة بعد الهجرة، وأولُ دمٍ اقتُصّ منه في الإسلام تأخر بعد ذلك، رجلٌ مِن بني ليث، قتلَ رجلا من هذيل، فأقاد منه النبيُّ صلّى الله عليه وسلم، وكان في السنة الثامنة، في الطريق إلى فتح الطائف (كُتِبَ) ثبت وفرض (الْقِصَاصُ) هو أن يفعل بالجاني مثل ما فعل بالمجني عليه، و(الْقَتْلَى) مِن القَتل، وهو أن يفعل بأحد ما يجعله يفارق الحياة، فمن فارقته الحياة لا بفعلِ فاعلٍ لا يُسمى قتيلا، بل ميتًا، وكان بعضُ العرب في الجاهلية لا يقبلون القصاص القائم على التكافؤ، وعلى أن يُفعل بالجاني - لا غيره - من العقوبة مثل ما فعلَ بالمجني عليه، فلا يرضون أن يُقتل الشريف بالوضيع، بل ربما قتلوا به عشرة أو أكثر، ويسمون ذلك تكايلا في الدماء، فكان منهم من لا يقتلون بالعبد إلا حرًّا، ولا يقتلون الرجل بالمرأة، وإذا لم يظفروا بالقاتل قتلوا رجلا من قبيلته بدلا عنه، إلى غير ذلك من عادات الجاهلية في الدماء، التي أورثتهم ثارات وحروبًا، امتدّ بعضها لعشرات السنين، فلما جاء الإسلام أبطَل هذا الظلم الواقع على الضعفاء، لأنهم كانوا لا يقبلون أن يقتل بالعبد من عشيرة ذات شرف إلا حر، ولا بالمرأة الحسيبة إلا رجل، فقوله تعالى: (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى) هو في هذا السياق، سياق طلب التكافؤ في الدماء، للرد على تسلطهم في الجاهلية على الطرف الضعيف، فلا دلالة في قوله: (وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى) على أن الرجل لا يقتل بالمرأة، أو العكس، ولا في قوله: (الْحُرُّ بِالْحُرِّ) على أن الحر لا يقتل بالعبد، أو العكس؛ لأن هذه من دلالة المفهوم، وشرط عمله عند القائل به ألّا يظهر للمنطوق سبب آخر لذكره، غير إثبات نقيض حكم المنطوق للمسكوت، فإن كان هناك غرض آخر لذكر المنطوق، فلا عمل لدلالة المفهوم، وذلك كما في قوله سبحانه وتعالى: (لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً)([1])، فلا يدل قوله: (أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً) على إباحة الربا غير المضاعَفِ؛ لأنّه ذكر لبيان شناعة الواقع الذي كانوا عليه في الربا، كانوا يأكلونه أضعافًا مضاعفة، وكما في قوله تعالى: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا)([2])، فلا تدلّ قطعًا على الإذن في إكراههنّ إن لم يردْن التحصنَ والتعففَ؛ لأن القيد (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا) أيضًا ذكرَ لبيان قبح واقعهم في أكراه العفيفات، وبذلك لا يكون في الآية دليل على عدمِ قتلِ الرجل بالمرأةِ أو العبدِ بالحرّ، ولا على عكسه، ويطلب الحكم فيهما من دليل آخر خارجَ الآية، واختلاف العلماء في ذلك يطلب من مظانه.
(فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) (عُفِيَ) من العفو والصفح[3]، والضمير في (لَهُ) يعودُ إلى الجاني، وفي (مِنْ أَخِيهِ) يعود إلى ولي الدم، والمرادُ بالأخِ الجاني، وسماهُ القرآنُ أخًا لتذكير ولي الدم بالأخوة التي بينه وبين الجاني في الدين، لتحملَهُ على الصّفح، إذ الشأن في الأخ ألَّا يقتل أخاه، وقد قالوا إن أعرابيا([4]) قتَلَ أخوهُ ابنَه، فلمّا تقدم للقصاص من أخيه ألقَى السيفَ وأنشدَ:
أقولُ للنفسِ تصبيرًا وتعزيةً |
إحدى يديَّ أصابتنِي ولم تُرِدِ |
كلاهُما خلفٌ مِن فَقدِ صاحبِهِ |
هذا أخي حينَ أدعوهُ وذا وَلَدِي |
(شَيْءٌ)[5] أي: فمن عُفيَ له العفوُ المرغبُ فيه، و(شَيء) عبارة عن القدر المعفوّ عنه، وأتي به نكرة؛ لتذهبَ النفسُ فيه كلّ مذهبٍ، دون حدٍّ، ترغيبًا في أي قدر مِن العفو، قَلّ أو كَثُر، فيعمُّ أصنافَه ومقاديرَه (فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) كلٌّ من (اتِّبَاعٌ) و(أَدَاءٌ) فاعلٌ لفعل محذوفٍ، تقديره: فيكون اتباعٌ وأداءٌ، والمراد بالاتباعِ رضا وليّ الدمّ، وقَبول ما عرض عليه مِن المال، والمعروفُ ما تستحسنُه النفسُ وترتاحُ إليه، خلاف المنكر، والباء فيه للملابسة، أي: اتباعٌ مصاحبٌ للمعروفِ، والضمير في إليه عائدٌ إلى وليّ الدم، المفهوم من قوله: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ)، والآية ترشد بعد الترغيب في العفو، إلى أن على وليّ الدم أن يتبعَ الجاني فيما التزمَه من جبر الضررِ بالمعروفِ، دون تعنيفٍ ولا أذًى، وعلى الجاني أن يؤدي ما التزمه من عوضٍ، بإحسانٍ وامتنانٍ، دون مماطلةٍ ولا جفاء في المعاملة (ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) الإشارة إلى قبول العفو وترك القصاص، أي: ذلك الإذنُ بقَبولِ العفوِ رحمةٌ من الله، وتخفيفٌ على عبادهِ (فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) من اعتدى بعد العفو، وعاد إلى القَتلِ مرةً أخرى، فإنّ الله يشدّد عليه العذابَ المؤلم في الآخرة، وكذلك في الدنيا يعاقب بالتعزير والإنكار، حتى لا يغريهِ العفوُ باحترافِ الجريمة.
(وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) القصاص تقدم معناه، و(ال) فيه للجنس، و(لكم) خبر مقدم، و(حياة) مبتدأ مؤخر، والتنكير فيه للتعظيم، والتركيب في غاية الفصاحة، حيث جعل الموت محلًّا لضدّه، وهو الحياة، وكانت العرب تقولُ في معناه: "القتلُ أنفَى للقتلِ"، فكرروا القتلَ في هذه الجملة القصيرة مرتين، وفاتَهم التصريح بالحياةِ، الواردُ في الآية، وكان القصاص حياةً لأنّ القاتل إذا عَلم أنه إذا قَتلَ يُقتلُ، امتنع عن القتلِ، فحُفظت الحياة.
(يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) الألباب: العقول، جمعٌ مفردُه لُبّ، ولم يأتِ في القرآن إلا جمعًا، قالوا لخفته وثقل المفرد، وفي الافتتاح بياء النداء تنبيهٌ موجه لأولي العقول، فهم الذين يسهل عليهم إدراك أنَّ القصاص من القاتلِ حياةٌ (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) القصاصُ مِن الأحكام التي يُرجى لمن يقيمها تقوَى الله ومرضاته.