المنتخب من صحيح التفسير -الحلقة 133- تابع سورة البقرة

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

- الحلقة (133).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)[البقرة:254-255].

قوله: (مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ) البيع معروف، والخلة: المودة والصحبة، والشفاعة: الوساطة لإيصال النفع للغير، والآية تأمر بالمبادرة إلى الإنفاق الواجب وغير الواجب، كلما دعت إليه حاجةٌ خاصةٌ أو عامةٌ (مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ) لا يمكن فيه تدارك ما فات، بأي وسيلة من وسائل التدارك التي اعتادها الناس، وهي في عرفهم إمّا البيع والشراء، أو إعانة الأصدقاء، أو وساطة الشفعاء، فكلها بعد الفوات بالموت والفناء لا سبيل إليها، والإنفاق المأمور به في الآية يعم كل إنفاق؛ المفروض منه وهو الزكاة، وما قد يوجبه الوقت، من مثل افتكاك الأسير، أو ما يتطلبه حفظ الدين، وحماية بيضة المسلمين، وغير المفروض من النفقة هو البر والمعروف. والوعيد على ترك المبادرة بالإنفاق قبل أن يأتي يوم ليس فيه خلة خليل، ولا صحبة صديق، كما قال تعالى: (وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا)( ) ولا يقدر أحد أن يشفع لأحد، إلَّا مَن أذن له الرحمن ورضي له قولا، هذا الوعيد خاص بترك الإنفاق الواجب، دون التطوع. (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) تذييل للآية، يحذر من التهاون في الإنفاق الواجب، بأنّ مَن امتنع عنه وتهاون فيه فقد فعَلَ فِعل الكافرين، كما قال سبحانه: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاة وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ)( )، كما وضع مَن لم يحج موضع مَن كفر، في قوله تعالى: (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)( ) وكله خارجٌ مخرجَ التغليظ على ترك الفرائض والأركان، وإلَّا فالمعاصي لا تسلب الإيمان عند أهل السنة.

(اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) هذه آية الكرسي، وقد جاء في الصحيح أنها أعظم آيةٍ في القرآن، وذلك لِمَا جمعته من أسماء وصفات الباري تبارك وتعالى؛ من الألوهية والوحدانية، والحياة والقيومية، والغِنى وعدم الافتقار، والعلم والملك، والقدرة والإرادة، ففي صحيح مسلم عن أُبَيِّ ابْن كَعْبٍ: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ قَالَ لَهُ: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيَّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟ قُلْتُ: اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، فَضَرَبَ فِي صَدْرِي وَقَالَ: وَاللهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ) . فالله بمعنى المعبودِ المستحقّ وحده للعبادة، ولا إله معبود بحق في الوجود غيره، والحيّ صفةٌ مشبهة، أي المتصفُ بالحياة اتصافًا أزليًّا أبديًّا، يليق به، والقيوم صيغة مبالغة من القيام بالأمر، القائم بذاته، والقيّم الحافظ لغيره، كما قال تعالى: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ)( ) فالأصنام والجمادات الفاقدة للحياة أصلا، وكذلك الملائكة وعيسى عليهم السلام، وغيرهم من الأحياء الفاقدة للقيومية؛ لا تصلح للعبادة، ولا أن يكون أيّ منها إلاهًا، كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا)( )

(لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ) تأكيدٌ لما سبق من الأوصاف، لا تعرض له سِنَة، والسِّنَة اسم هيئة من الوسن: فتورٌ يتقدم النوم، فالسِّنة أضعف وأخف من النوم، والقاعدة في النفي مع العطف أنْ يقدّم الأقوى وهو النوم؛ لأنه لو قدم الأضعف لا يحتاج بعده إلى نفي الأقوى، فمن لا يملك درهمًا لا يملك دينارًا بالأَولى. وخولفت هذه القاعدة في الآية، فقدمت السِّنة؛ لأن الأسلوب أسلوب إحاطة وإحصاء، على حد قوله تعالى: (لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا)( )، مع مراعاة الترتيب الوجودي في الذكر، حيث إنّ السِّنة تسبق النوم، أو يحمل الأخذ في (لَا تَأْخُذُهُ) على معنى الغلبة والقهر، كما في قوله تعالى: (أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ)( ) فيكون التدرج حينئذ من الأخف إلى الأقوى على بابه، أي لا تغلبه السِّنة ولا يغلبه النومُ، الذي هو أقوى مِن السّنة وأشدّ.

(لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) (له) اللامُ للملك، وما في السموات وما في الأرض هو جميع الموجودات التي خلقها الله، وهذا تأكيد آخر لتفرده سبحانه بالألوهية والقيومية، فمن كان كذلك فإن ما سواه يكون ملكًا له

(مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) مَن للاستفهام، وذا اسم إشارة لغير معين، الغرض منه المبالغة والتفخيم لمضمون النفي، وإلّا فلا وجود لهذا المشار إليه، القادر على أن يشفعَ بدون إذن، والاستفهام إنكاري، لنفي وجود شفعاء بلا إذن، بدليل الاستثناء بعده، أي: فمن هذا الذي يأتي شافعًا من الملائكة أو الأنبياء أو غيرهم، متوددًا لينفع غيره، إذا لم يقبله الله ويأذن له، وقد ورد في حديث الشفاعة الإذنُ للنبي صلى الله عليه وسلم بها، حين يسجد تحت العرش لسؤال الشفاعة، فيعلمه ربه كلمات يناجيه بها، فيقال له: (ارفعْ رأسكَ، اشفعْ تشفع) ، وبامتناع نفع من يأتي متشفعًا متوددًا من غير إذن، يُعلَم من الآية امتناع نفع من يأتي من الشفعاء معاندًا مخاصمًا، من باب أوْلى، وهذا بيان لمقام عزة الله تعالى وعظمته وكبريائه، يصغر دونَه كل عظيم

(يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أي: علمُه شامل لكل شيء، بما في ذلك علمه بمن هو جدير بالشفاعة، ومَن لا يستحقها، وما بين أيديهم: ما مضى وتقدم من الأزمان الماضية، أو من أمور الدنيا (وَمَا خَلْفَهُمْ) ما يأتي من الأزمان بعدهم، أو من أمور الآخرة، والضمير في (أيديهم) و(خلفهم) يعود لما في السموات والأرض من العقلاء وغيرهم، من باب تغليب العقلاء، والمعنى إحاطة علمه تعالى بما كان وما يكون، وما تقدم وما تأخر من أمور الدنيا والآخرة، إحاطة كاملة شاملة لكل شيء، لا يعزب عنه مثقال ذرة

(وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) الإحاطة: العلم التام الكامل، فلا أحد يقدر على الاطلاع على شيءٍ من معلوم الله، إلا بقدرِ ما يشاء الله كشفه وإظهاره لمن يريد، كما قال سبحانه: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ)( )، فجملة (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أفادت إحاطة علمه بكل شيء، والتي بعدها (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) أفادت تفرده بالعلم، وأنه يعطي منه ويظهرُ ما يظهرُ بمشيئته وإرادته، والعلم والتفرد بالعلم مما تقتضيه الألوهية

(وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) الكرسي مخلوقٌ عظيم بين يدي العرش، محيط بالسموات السبع، وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم: (ما السمواتُ السبعُ والأرضونَ السبعُ مِن الكرسيّ، إلَّا كحلقةٍ في فلاةٍ، وفضلُ العرشِ على الكرسيّ كفضلِ تلك الفلاةِ على تلكَ الحلقة)( )، وقيل: الكرسي هو ذات العرش

(وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) يؤوده: يعجزه ويثقله، مِن الأوْدِ أصله العوج؛ لأنّ الثقيل يميلُ له ما تحته، أي: لا يشقُّ عليه حفظهُما، وهو العلي العظيم قيومُ السموات والأرضِ، المتعالي، ذو العظمة والكبرياء.

التبويبات الأساسية