المنتخب من صحيح التفسير - الحلقة 36 - تابع سورة البقرة

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

- الحلقة (36).

 

(وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)

(تلبسون) من اللَّبس، وهو: الخَلط،، يُقال لبَس عليه الأمر لُبسا ولُبوسا، اختلطَ عليه فيه الحقُّ بالباطلِ، فبابُه ضَرَبَ، قال الله تعالى: (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ)[1]، والتباسُ الأمرِ عدمُ وضوحِه، ومنه قول علي رضي الله عنه للحارث بن حوط: "إنّه مَلبوسٌ عليكَ، إنّ الحقَّ لا يُعرفُ بالرجالِ، اعرفِ الحقَّ تَعرفْ أهلَهُ"[2]، وهذا بخلاف لِبس الثوب، فبابه عَلِمَ، يقال فيه: لبِستُ الثوبَ ألبَسُهُ لِبسًا.

(الْباطِلِ): خلافُ الحقِّ؛ ومعناه الزائلُ؛ لأن خلافَ الحقّ يزول، قال لَبيد:

أَلَا كُلّ شَيءٍ مَا خَلا اللهَ باطِلٌ، أي: زائلٌ.

ومنه (البَطَل) للشّجاعُ، وفِعلُه بَطُل؛ لأنّ الشجاع يعرض نفسه للموت فيُذهبُ دمه، والباطلُ: الشيطانُ، والمعنى: لا تخلطُوا ما عندَكم مِن الحقِّ في كتابِكم بغيرِ الحقّ؛ فتُحرِّفوهُ وتُبدلُوه.

(وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ): الفعلُ (تكتموا) يصحّ أن يكونَ مجزومًا بالنهيِ، عطفًا على (تَلبِسوا)، ويجوزُ نصبُه بأنْ مضمرةٍ بعدَ الواوِ؛ لتقدُّمِ النهيِ، والتقدير: وأنْ تكتُمُوهُ، وكِتمانُ الحقِّ كُفرُهم بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، ومَا جاءَهم بهِ مِن الإسلام، بعد أن عرفوا صدق نبوتِه من كتابهم.

وكانَ اليهودُ - أول ما نزلَ آباؤُهم بيثربَ - عرفُوا مِن كتبِهم أنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم يخرجُ بينَ ظهرانيهِم، فكانوا ينتظرونَه ليؤمِنُوا بِه، لكنْ خلَفَ مِن بعدِهم خُلوفٌ أدْركُوا محمدًا صلى الله عليه وسلم فكفروا بهِ، وهم يعرفُونَه، قال تعالى: (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ)[3].

(وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ): الجملة حالية، تكذبون النبيّ صلى الله عليه وسلم والحال أنكم تعلمون صدقَه، فدل على أن كُفرُهم به كانَ كفرَ عنادٍ؛ كفروا به معَ علمِهم بأنّه حقٌّ، وفيه زيادةُ تغليظِ الذنبِ على من يرتكبُهُ معَ علمِه به.

(وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ)؛ تقدمَ الكلامُ على الصلاةِ والزكاةِ في أوّلِ السورة، والركوعُ: انحطاطُ الظهرِ وانحناؤُهُ، وقد حَدّدَتِ السنّةُ هيأتَه وكَمَاله، والمُرادُ بالركوعِ الصلاةُ، وكرر الأمر بها (اركعوا مع الراكعين)؛ حثًّا للحفاظ على أدائها في الجماعة، وعبرَ عنها بالركوع لمزيدِ العنايةِ به؛ لأن الركوعَ من خواص أركان الصلاةِ، الدالة على التذللِ، فلا يجوز أن تنحنيَ الظهور راكعةً إلا لله.

(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ)؛ الخطاب في (أَتَأْمُرُونَ) كالذِي قبلَه لليهودِ، وعلى وجهِ الخصوصِ أحبارهُمُ، الذين يكثرُ منهم هذا الفعلُ، والاستفهامُ للإنكارِ والتوبيخِ، كان الواحدُ منهم يقولُ لذي قرابتِه، ولِمن بينَه وبينَه رَضاعٌ مِن المسلمينَ: اثبُت على الذِي أنتَ عليهِ، وما يأمرُكَ بهِ هذا الرجُلُ - يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم - فإنّ أمرَهُ حقٌّ، فكانوا يأمرونَ الناسَ بذلك، ولا يفعلونَه.

ويدخلُ في هذا التوبيخِ كلُّ مَن فعلَ فعلَهم؛ لأنّ شرعَ مَن قبلَنَا شرعٌ لنَا، مَا لم يَرِد ناسخٌ، حتى لو لم يَرِدْ في شرعِنا دليلٌ آخرُ يدل عليهِ، كيف وقدْ دلَّ الكتابُ والسنةُ على قبحِ هذا العملِ في مواضِعَ، قال تعالى: (كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ)[4]، وفي الصحيح، من حديث أسامة بن زيد قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ، فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِالرَّحَى، فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ، فَيَقُولُونَ: يَا فُلاَنُ؛ مَا لَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ؟! فَيَقُولُ: بَلَى، قَدْ كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلاَ آتِيهِ، وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ)[5].

ولأنّ مَن يفعلُ ذلكَ يكونُ كالمستهينِ بحرماتِ اللهِ تعالى، والمستخفِّ بأحكامِه.

و(البِرّ)؛ مِن بَرِرَ، مِن بابِ عَلِمَ، وهو لفظٌ جامعٌ لكلِّ خيرٍ، في أمورِ الدين والدنيا، فيدخل فيه كل ما يتقربُ به إلى الله مِن العباداتِ، وكل ما فيه إحسانٌ إلى خلق الله من العاداتِ، ولشمولِه لكل ذلك قالوا: "البرُّ ثلاثة؛ برٌّ في عبادةِ الله، وبرٌّ في مراعاةِ الأقاربِ، وبرٌّ في معاملةِ الأجانبِ"، و قد أشيرَ إلى هذهِ الأنواع في قوله تعالى: (وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)[6].

و(البَرّ) بالفتح؛ الإجلال والتعظيم، ومنه: ولدٌ بَرٌّ وبَارٌّ، أي: يعظِّم والِديهِ ويكرمُهم.

(وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ)؛ جملة حالية، مِن تمامِ الجملة الأولى، قيد لها، على تقدير: أتأمرون الناس وأنتُم تنسونَ أنفسَكم، وذلك حتى لا يتسلطَ الإنكارُ على الأولى وحدها، وهي قوله: أتأمرون الناس بالبر؛ لأنه يفسد المعنى، فالإنكار على الأمر مقيد بنسيانِ النفسِ، لا استقلالًا، وليس التوبيخُ أيضًا متجهًا إلى الجمع بينَ الأمرينِ؛ لأنّه يلزم منه أنّ نسيانَ النفسِ وحدَه لا يستحقُّ التوبيخَ، وهو فاسدٌ، فلا يستقيمُ الكلامُ إلّا على حكايةِ الحالِ، بجعلِ الثانية قَيدًا للأولَى، فالتوبيخُ هو على تركِهم أنْ يأمُرُوا أنفسَهم، لا على أمرِ غيرِهم بالبرِّ، فقد كانَ الأحبارُ يأمرونَ أتباعَهم ومقلِّدِيهم باتباعِ التوراةِ، وكانوا هم يخالفونَها، في جحدِهم منها صفةَ النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وكانوا يحضّونَ الناسَ على الطاعةِ، وهم يواقعونَ المعاصِي، ويأمرونهم بالصدقةِ، ويبخلونَ بأموالهم.

وقدّر الحال جملةً اسمية (أنتُم)؛ لاقترانِها بالواو، لأنّ الغالبَ في جملةِ المضارع الحالية عدمُ مجيءِ الواو معها.

والنّسيانُ: أصلُهُ زوالُ المعلومِ والمحفوظِ مِن الذاكرةِ، والسهوُ قريبٌ منه، إلا أنه زوالٌ أخفّ منه، ورجل نَسْيان بالفتح: كثير النّسيان للشيء.

والمراد بالنسيانِ في الآية التركُ؛ كما قال تعالى: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ)[7].

وليستِ الآيةُ دالةً على أن العاصيَ لا يأمرُ بالمعروفِ، ولا ينهى عن المُنكر، كما يتبادَرُ، بل دالة على قُبحِ أنْ ينهَى الإنسانُ عن خلقٍ ويأتيَ مثلَهُ، وهو حالُ المخاطَبِين، حيثُ صار عملُهم في الدينِ حِرفةً لا قُربة، يؤَدُّونَه وظيفَةً مِن أجلِ المرتبِ، والترقِّي في المَراتبِ، يوصّلونَ مِن خلالِها النصحَ للناسِ، ويعملونَ على خلافِ ذلكَ، فيقولُونَ ما لا يفعَلونَ.

و(الأَنفُسُ)؛ جمعُ قلةٍ لنَفْس، المرادُ بها ذاتُ الإنسانِ، ومنه قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)[8].  

وتُطلق على ما في داخلِ الإنسانِ، وما يُخفيهِ، ومنه قوله تعالى: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي)[9]، وتُطلق على الروحِ، ومنه قوله تعالى: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)[10].

(وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ): هذا توبيخٌ ثانٍ لليهودِ، حيث إنّهم يفعلونَ ذلك عن علمٍ ودِرايةٍ، يقرؤونَ التوراةَ ويتدارسُونَها، وفيها الأوامرُ والنواهِي، فلا تُذكِّرهم، ولا ينتَفعون بها، قال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللهُ بِعِلْمِهِ)[11].

لذا؛ ذُيّلتِ الآيةُ بما يدلّ على استنكارِ فعلهمْ وقبحِه: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ).

و(العقلُ)؛ أصلُه المنعُ، والعقلُ في الإنسانِ: الإدراكُ المانعُ مِن الخطأِ، ومنهُ: عِقالُ البعيرِ، الذي يمنعُه مِن الشرود، ومنه المَعْقِلُ والمُعْتَقلُ: موضعُ الاعتقالِ والحبسِ، والمعنَى: ألَيسَ معكُم عقلٌ نافعٌ، يمنعُكُم مِن مثلِ هذا الفعلِ القبيحِ، وليس المرادُ نفيَ العقلِ التكليفيّ عنهم، بل هو ثابتٌ لهم، ولكنّهم لمّا لمْ يعملوا بمُقتضاهُ، صارُوا هم وغيرُ العقلاءِ سواءً.

 


[1] [الأنعام:9].

[2] [الجامع لأحكام القرآن:1/340].

[3] [البقرة:89].

[4] [الصفّ:3].

[5] [البخاري:3046،ومسلم:5310].

[6] [البقرة:177].

[7] [التوبة:67].

[8] [المائدة:45].

[9] [المائدة:116].

[10] [الزمر:42].

[11] [معجم الطبراني الصغير:508،ومسند الدارمي:268].

التبويبات الأساسية