المنتخب من التفسير -الحلقة 320 - سورة المائدة

بسم الله الرحمن الرحيم

 المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

الحلقة (320)

[سورة الأنعام:26-31]

 

(وَهُم يَنهَوۡنَ عَنهُ وَيَنـَٔونَ عَنهُ وَإِن يُهلِكُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُم وَمَا يَشعُرُونَ)(26)

كان أهل مكة ينهون الناس عن اللقاء برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبعدون أنفسهم أيضًا عن سماع القرآن، فإعراضهم عن القرآن ونأيهم وإبعادهم أنفسهم عنه هلاكٌ لهم؛ في الدنيا بالخذلان، وفي الآخرة بعذاب النار، فإنهم وإن ظنوا أنهم بذلك يضرون النبي صلى الله عليه وسلم، بافتراق الناس عنه، هم في الواقع لا يضرونَ إلا أنفسهم، ولا يعود الضرر إلَّا عليهم، فهم من سيتخلى الناسُ عنهم، ويخسرون الدنيا والآخرة، ولغفلتهم أنهم يفعلون ذلك، ما يشعرون أن فيما يفعلونه هلاكهم هم، لا هلاك غيرهم.

وجملة (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ) معطوفةٌ على قوله (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) وضمير (وَهُمْ) للمشركين، وضمير (عَنْهُ) للنبي صلى الله عليه وسلم، للعلم به من السياق، وينأون عنه: يبعدون أنفسهم عن سماعه، والهلاك في قوله (وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) الضرر الشديد الشبيه بالموت، و (إن) في (وَإِنْ يُهْلِكُونَ) نافية، أي ما يهلكون إلا أنفسَهم وما يشعرون.

(وَلَوۡ تَرَىٰٓ إِذۡ وُقِفُواْ عَلَى ٱلنَّارِ فَقَالُواْ يَٰلَيۡتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِـَٔايَٰتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ بَلۡ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخۡفُونَ مِن قَبۡلُۖ وَلَوۡ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنۡهُ وَإِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ)(27-28)

الخطاب في (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكل مَن يتأتى منه الاعتبار، و(لو) شرطية، و(إذ) ظرفية، وفعل وَقَف في قوله (وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) ثلاثي، يتعدى بنفسه للمفعول، قال تعالى: ﴿‌وَقِفُوهُمۡ إِنَّهُم مَّسۡءُولُونَ﴾([1])، ومصدره الوقف، وتعدى هنا بعلى، الدالة على الغلبة والتمكن والسيطرة؛ ليفيد أنهم انتهى بهم الأمر إلى النار، ووجدوا أنفسهم واقفين عليها وقوف المستسلم، المساق إليها سوقًا بغلبة وقهر، وصاروا يرونها رأي العين، ولا محيص لهم عنها.

و(ليت) في قوله (فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ) للتمني، والنداء للتحسر والندم؛ لأن ما فاتهم بعُدَ عليهم تداركه، فلم يبق لهم سوى الحسرة والأسف، والذي تحسروا عليه وندموا على فواته هو الإيمان، فلشدّة ما نزل بهم يستغيثون ويتألمون، وينادون على أسفهم وحسرتهم أن تحضر، فتردّهم إلى الدنيا ليؤمنوا، ولا يكذبوا بالقرآن.

والفاء في قوله (فَقَالُوا) للتعقيب، قالوا ذلك عقب وقوفهم على النّار، لم يستطيعوا صبرًا ولا انتظارًا، ما إن وقفوا على النار حتى قالوا هذا القول (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ) وقرأ الجمهور (نُكَذِّبُ) (وَنَكُونُ) بالرفع عطفا على (نُرَدُّ) لأنه من ضمن ما تمنوه، وليس جوابًا للتمني.

و(بَلْ) في قوله (بَلْ بَدَا لَهُمْ) للإضراب، إبطالًا لتمنيهم الكاذب أنهم لو رُدُّوا لم يكذِّبوا، فهم لم يقولوا ذلك عن صدقٍ، وإنما أُلجئوا إليه إلجاءً، من شدة الكرب، وذلك لما افتضحوا، وبدَا وظهر لكلِّ فريقٍ منهم ما كان يخفِي مِن قبائحه، فظهرَ للمنافقين أنه لم ينفعهم نفاقهم، وظهر للمكابرين من المشركين أنه لم تنفعهم المكابرة، فنادوا على أسفِهم وحسرتِهم، وندموا لعدم انقيادِهم للدليل، الذي عرفوا أنه حق، وأخفته نفوسهم حسدًا ومكابرة، فقد كان أهل الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، والمشركون يعرفون صدق النبي صلى الله عليه وسلم بينهم.

ولو في قوله (وَلَوْ رُدُّوا) شرطية جوابها محذوف، دل عليه المذكور، والتقدير: لو ردُّوا لكذَّبوا، فإن تحسرهم على فوات الإيمان، وتمنيهم أن يردوا إلى الدنيا فيؤمنوا بالقرآن، ليس صدقًا، وقوله (وَلَوْ رُدُّوا) هو على الافتراض والتسليم بوقوع ما لَا يمكن وقوعه، فإنه لو وقع (لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ) مِن الكفر بالقرآن وبالبعث، وفي قوله (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا) دليل على إحاطة علم الله بما كان وما لم يكن، وبما لم يكن لو كان كيف يكون.

وقوله: (وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) حكم بكذبهم فيما قالوه، وبكذبهم في غيره، فالكذب صفة قائمة بهم لا ينفكون عنها، وهو كذب مؤكد بالجملة الاسمية، مستمر مستقر، لا يتركونه.

(وَقَالُوٓاْ إِنۡ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا ٱلدُّنيَا وَمَا نَحنُ بِمَبعُوثِينَ)(29)

جملة (وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا) عطف على قوله (لَعَادُوا) أي: لو ردوا لعادوا إلى الكفر الأول بالبعثِ (وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا) وما الحياة إلا حياتنا الدنيا التي نعيشها ولا حياة بعدها، وليس هناك بعث ولا حياة أخرى، نبعث فيها من قبورنا بعد الموت.

(وَلَوۡ تَرَىٰٓ إِذ وُقِفُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمۡ قَالَ أَلَيسَ هَٰذَا بِٱلحَقِّۚ قَالُواْ بَلَىٰ وَرَبِّنَاۚ قَالَ فَذُوقُواْ ٱلعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكفُرُونَ)(30)

الكلام في (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا) كالكلام في نظيره قريبًا: (ولَوْ تَرَى إذْ وُقِفُوا علَى النَّارِ) ووقوفهم (عَلَى رَبِّهِمْ) هو وقوفهم بين يديه للحساب والمساءلة، فإنهم يساقون إلى ذلك كما يساقون للوقوف على النار، وجملة (قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ) استؤنفت، كأن سائلا سأل: إذا وقفوا على ربهم، ماذَا قال لهم ربّهم؟ فأجيب (قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ) أليس الذي أنتم فيه، وترونه من البعث والحساب الذي كُنتُم تنكرونه حقًّا؟ فالاستفهام في قوله (أَلَيْسَ) للتقرير والتقريع، لتقريرهم وأخذ اعترافهم بما كانوا يكذبون به، والإشارة في قوله (أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ) للبعث، ولما كان السؤال منفيًّا بليسَ، كان جوابه (بَلَى)؛ لأن بلى لإبطال النفي، فيبقى منه الإثبات، أي: إنه حق وربنا، أقروا وأقسموا على إقرارهم، والفاء في قوله (فَذُوقُوا الْعَذَابَ) للفصيحة؛ أي إذا كان الأمر كذلك، وأقررتم بكفركم (فَذُوقُوا الْعَذَابَ) ليمسَّكم العذاب، وتحسُّوا ألمهُ وتتذوقُوه بسبب كفركم، فالباء للسببية، وما مصدرية.

(قَد خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱللَّهِۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَتهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغتَةٗ قَالُواْ يَٰحَسرَتَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّطنَا فِيهَا وَهُم يَحمِلُونَ أَوۡزَارَهُم عَلَىٰ ظُهُورِهِمۡ أَلَا سَآءَ مَا يَزِرُونَ)(31)

بعد أن أخبر الله عن مصير المكذبين بالبعث، بقوله (فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أتبعه بما يؤكد ألَمهم، ويضاعف حسرتهم، فحكم عليهم بالخسران، وقال (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ) ووصف خسرانهم بأن مردّه إلى تكذيبهم بلقاء الله، وإنكارهم المصير والرجوع إليه، والوقوف بين يديه للحساب والجزاء، الذي لم يلقُوا له بالًا، ولم يحسبوا له حسابًا، فخسروا بذلك الآخرة ونعيمها، واستحقوا العذاب.

(حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) أي الغاية التي ينتهي إليها كذبهم ويتوقف رواجه، هي مجيئ الساعة، وهي القيامة، ولا تأتيهم إلا مباغتة لهم، على غير ترقّب، فـ(حتى) للغاية، والساعة: اللحظة والوقت القصير، وهي القيامة هنا، سميت بذلك لقلتها بالنسبة إلى ما بعدها من الخلود، أو لسرعة ما يقع فيها من البعث والحساب، و(بَغْتَةً) فجأة، منصوب على الحال بتأويل مباغتين، فهي لا تأتي إلا بغتة دون ترقب، لا أحد يعلم وقتها.

ويصح أن تكون (حتى) للسببية، أي: لقد خسروا لأنهم إذا جاءتهم القيامة يندمون، وقد أخبر الله تعالى عن ندمهم بقوله (قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا) فقالوا يا حسرتنا جواب (إذا) في قوله (حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ) فإذا جاءتهم وأخذتهم الساعة بغتة قالوا: يا حسرتنا، والحسرة: اللوعة واللهفة على ما فات، والنداء في (يا حسرتنا) للندبة والتلهّف والعويل، فهم ندبوا حظهم، ونادوا على تعاستهم، بسبب تفريطهم في القيامة، وعدم أخذ العدة لها بالإيمان والعمل الصالح، ولم يقدروا من شدة ما نزل بهم أن يُخفُوا ما بأنفسهم من الإحباط واليأس، حتى نادوا بحسرتهم: يا حسرتنا أقبلي، وهو كلام يقوله المكروب، يعلم أنه لا ينفعه، ولكنها نفثة مصدور، والتفريط: التضييع والتقصير فيما كانوا قادرين عليه من الإيمان، فالتضعيف في الفعل فرّط للسلب والترك، وضمير (فِيهَا) يعود على الساعة، وجملة (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ) حالية، والأوزار: جمع وزر، أصله الحمل الثقيل، ويطلق على الذنوب، فهم يحملون ذنوبهم على ظهورهم كالأثقال التي لا يقدرون عليها، وألَا في (أَلَا سَاءَ) أداة تنبيه واستفتاح، تأتي للتنبيه على أهمية ما يذكر بعدها، و(سَاءَ) فعل يستعمل على وجوه؛ منها كونه من أفعال الذم، فيكون مضمون (مَا يَزِرُونَ) فاعلا، و(ما) نكرة موصوفة، أو موصولة، والمخصوص بالذم محذوف، تقديره: ساء شيئا يحملونه حملُهم، أو ساء الذي يزرون وزرُهم.

[1])    الصفات: 24.

التبويبات الأساسية