المنتخب من صحيح التفسير -الحلقة 212- تابع سورة آل عمران

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 

 الحلقة (212)

 (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللهِ وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ)[آل عمران:195-197].

(فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) لمّا علمَ اللهُ مِن حال الذاكرين والمتفكرين في خلق السموات والأرض صدقَ توجههم، ولجوئهم إليه، لم يتأخر في قَبول دعائهم، فجاءَ مؤكدًا بالسين والتاء في قوله: (فَاسْتَجَابَ) ومعطوفًا على دعائهم بالفاء المقتضيةِ للتعقيبِ بلا تراخٍ، ومن أهل اللغة من يفرق بين أجابَ واستجاب، فيجعل استجاب خاصًّا بمَن يجيب السائل بالقَبول، وأجابَ تصلح لإجابته بالقَبول وبالردّ، وتتعدّى استجاب باللام، كما هنا، وذكر اسم الربِّ في معرض الاستجابة دون غيره من الأسماء الحسنى، إشعارًا بعناية الله بهم؛ لما في معنى الربوبية من الشفقة والرعاية للمربوب، وإصلاح شأنه (أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ) أن مصدرية، أي: بأني لا أضيع، والاستجابة كانت بأن الله يوفيهم أجورهم كاملة، بقَبول أعمالهم، ولا يضيع لهم منها شيئًا، دون أن يكتفى بأنه أعطاهم ما سألوا، حثًّا لهم على العمل الصالح الدؤوب؛ لأنهم إذا علموا أنّ مرادهم تحقق مكافأةً لهم علىٰ أعمالهم، شمَّروا وجدّوا السير، ولم  يتوانوا ويتَّكلوا (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى) مِن: بيانية؛ لأن (عَامِلٍ) نكرة مبهمة، فالذكر والأنثى بيان المبهم، بأنهم في وفاء أجور الأعمال الصالحة سواء (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) جملة اعتراضية لتقوية معنى ما قبلها، وأنهم في الأجر سواء، فالذكر والأنثى كالشيء الواحد المكمل بعضه بعضًا، جاء في أسباب النزول أنّ أم سلمة رضي الله عنها قالت: (يا رسول الله؛ إني أسمع الله يذكر الرجال في الهجرة، ولا يذكر النساء، فنزلت الآية؛ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ…)([1]).

 (فَالَّذِينَ هَاجَرُوا) هذا تفصيل وبيان مفرّع عن الحكم السابق([2])، وهو عدم إضاعة عمل العاملين، فـ(الَّذِينَ هَاجَرُوا) وما بعده تمثيلٌ لنوع العمل الذي لا يضيع، وقوله (وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ) عطف على (الَّذِينَ هَاجَرُوا) عطف تفسير، وقوله (لَأُكَفِّرَنَّ) اللام واقعة في جواب قسم محذوف، والتقدير: وعزتي لأكفِّرَن عنهم سيئاتهم، والمعنى: فالذي هاجر وأوذي في دينه وصبر، والذي ألجئ إلى الخروج من بلده كارهًا فثبت، سواء كان ذكرا أو أنثى، والذين (قَاتَلُوا) العدو في سبيل الله، ولم يظفروا بالشهادة (وَقُتِلُوا) شهداء في معارك الجهاد، كل أولئك يقول الباري: وعزتي (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا) أي: أثيبهم ثوابًا عظيمًا، فالتنكير في (ثوابا) للتعظيم، فهو وعد مؤكد من الله لهم بمحو السيئات، ودخول الجنات، جزاء منه على ما عملوا وجاهدوا وهاجروا، و(مِنْ عِنْدِ اللهِ) صفة مؤكدة؛ لأن الثواب معلوم أنه لا يكون إلا من عند الله، فذكره زاد ثقة به وتصديقًا (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) وثوابه وجزاؤه أحسن الجزاء، فلا ثواب أحسن من ثوابه، وكما تنال النساء ثواب الهجرة، ينلنَ أيضًا من أجر الجهاد، فمَن أعانت المجاهدين بإطعام الطعام، وسقي الماء، ومداواة الجرحى، كانت مع المجاهدين.

 (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا) الخطاب في (لا يغرنك) نهيٌ لكل أحد غير معيّن([3]) بألّا يغتر بما يملي الله به للظالمين من الفسحة في سعة العيش، وراحة الدنيا، وتقلبهم وتنقلهم في البلاد بالأسفار؛ لأن ذلك متاع قليل، سرعان ما يُسلبونه، ويواجهون بالعذاب المهين جزاءً على كفرهم، فالغرور في (لا يغرنّك): الخداع بإظهار شيء مرغوب للإطماع فيه، وإخفاء ضده للإيقاع فيه، والتقلب: التصرف في الشيء والتنعم به (فِي الْبِلَادِ) في الأرض (مَتَاعٌ قَلِيلٌ) متاعٌ خبر مبتدأ محذوف، أي التقلب في البلاد متاع قليل، والمتاع ما يُشترى من الأغراض لينتفع به في حينه انتفاعًا مؤقًتا، ثم يزول ولا يدوم؛ لذا وصف بأنه قليل، ولو كان في أعين أهل الدنيا يُرى كثيرًا، فإذا ما اجتمع مع الكفر والمعاصي، فإنه ينتهي إلى ما أخبر الله به أصحابه في قوله (ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) المأوى: المصير والمرجع، والمهاد: الفراش والمرقد، فبئس المصير والمرقد مرقدهم، والخطاب للمؤمنين، ينهاهم الله تعالى: ألّا تنخدعوا وتغتروا بما ترونه من ظاهر حال الكافرين، وتصرفهم في شؤون حياتهم، وتقلبهم في نعيمها ولذائذها، وتوسعهم في مكاسبها، ووفرة حظوظهم فيها، بما يشعر بملائمتها لهم وحسنها وصفائها، ونيل مرغوبهم منها، لا تغتروا ولا تنخدعوا بما ترونه، وما يظهر لكم من ذلك، وتظنوا أنه نعيمٌ مستمرٌّ، وعلامة سعادة ورضى، فيفتنكم عن دينكم، وتسلكوا طريقهم؛ فإن ما هم فيه متاع قليل، وطريق خادع قصير، عاقبته حزن، ونهايته ألم، إلى جهنم وبئس المصير، هذا النهي عن الاغترار بهم، منصبٌّ على الافتتان بما هم عليه من الضلال والكفر، وربطه بالازدهار والتقدّم، وليس منصبًّا على الكسب والأخذ بالأسباب، والسعي الحثيث على العمل، بأن يكون المسلمون مع تقواهم ينالون حظوظهم من الدنيا على أكمل وجه، بالتقدم في مكاسبها وعمارتها، والتفوق في كل ما يمكِّنهم مِن أن يكونَ السلطان والغلبةُ لهم على أعدائهم.

 

[1]) المستدرك: 3174.

[2]) الذين مبتدأ، والفاء للتفريع، والقسم وجوابه في قوله (لَأُكَفِّرَنَّ) خبر المبتدأ.

[3]) فـ(لَا) ناهية، لدخولها على نُون التوكيد، وليست نافية، لعدم مصاحبة النفي للتأكيد.

التبويبات الأساسية