بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (95).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)[البقرة:183-184].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) افتِتاح الخطاب بالنداء للمؤمنين، يُشعر بأهمية ما يأتي بعد النداء، وهو الإخبار بفرضية الصوم، وسورة البقرة من أوائل ما نزل من القرآن بعد الهجرة، وآية الصوم هذه نزلتْ في السنة الثانية، يدل على ذلك ما جاء في الصحيح؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم صامَ تسعَ رمضانات (كُتِبَ) فُرضَ ووَجب (الصِّيَامُ) والصوم مصدر صامَ، وأصل الفعل (صوم) واويّ، والصوم: الكفُّ عن الطعام والشرابِ وشهوة الفرج بنيةِ التقربِ (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) من أهل الكتاب وغيرهم، ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وجد اليهود يصومون عاشوراء، فسألهم عنه، فقالوا: هذا يومٌ نجَّا الله فيه موسى عليه الصلاة والسلام من فرعون، فنحن نصومهُ شكرًا لله، فقال: (نحن أحقُّ بموسَى منكُم)[1]، فصامه وأمر بصيامه، وكان صومه - أي عاشوراء - فرضًا على المسلمين، إلى أن نسخت فرضيته بصومِ رمضان، وبقي صومه تطوعا (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (لَعلَّ) الواردة في القرآن: إن جُعلت بمعنى الترجي والتوقع فهي في حق المكلفين؛ لأنّ الترجي والتوقع محال في حق الله، أو تكون للتعليل، أي: لأجلِ أن تتقوا، أو متعرضين بالقيام بهذه العبادة للتقوى، فمن الفضائلِ التي رتبها الله على الصوم، أنّه يعود على الصائمين بالتقوى، التي هي جماعُ كل خير.
(أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ)[2] الأيام جمع قلة ليوم، و(مَعْدُودَاتٍ) كذلك جمع قلة من العدّ، ومادة العد ذاتها أيضًا تشعر بالقلة؛ لأن الكثير لا يُعد، فالقليل يعدُّ عدًّا، والكثير يُهال هيلا، وتقليلها بما ذكر - مع التمهيد لها بأنها فرضت على من قبلنا، ولسنا أول من فرضت عليه - إنما هو لتهوين أمرها على المكلفين، وأنها من التكليف المقدور عليه، حتى لا يستشعروا عند الأمر بها ثقلها ومشقتها، فتسهل عليهم الطاعة.
(فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا) هذه الآية متفرعة عن الآية التي قبلها، فبعد أن أمر الله تعالى بالصوم، ومهَّد للتخفيفِ فيه بأنه أيام معدودات، تفرَّع عن هذا الأمر تخفيفٌ آخر، خاصّ بالمريض والمسافر، لكونهما مظنة زيادةِ المشقة، فرخص لهما في الفطر في رمضان، ثم قضائه في أيام أُخرَ بعده، والمرض الذي يبيح الفطر، هو المرض الذي تحصل معه مشقة زائدة على المشقة المعتادة للصوم، وهي التي يترتب عليها إمّا زيادة المرض، أو تأخرُ البرء، ومن باب أولى تعرض المريض للهلاك بسبب الصوم، والمشقةُ الكبيرةُ التي تُعرّض الصائمَ للهلاك يحرمُ معها الصومُ، ويجب الفطر، والصوم معها من المعصيةِ، وإنْ زعمَ صاحبُه أنهُ في عبادةٍ، ولا يُعدّ هذا مِن الحرصِ، بل من التنطّع في الدينِ، وفي صحيح مسلم من حديث ابن مسعود: (هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ)([3])، قالها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثًا (أَوْ عَلَى سَفَرٍ) على للاستعلاء، ومعناه التمكن من الشيء، وتدلُّ هنا على التلبس بالسفر وركوبه بالفعل، فلا يبدأ المسافر الفطر إلا بعد البدء في السفر، والسفر في الآية مطلق كالمرض، لكن كما قيدوا المرض بالمشقة الزائدة، قيدوا السفر بالسفر الطويل؛ لأنه مظنة المشقة، وبتتبُّع السفرِ الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأخذون فيه برخصة القصر والفطر، وُجد أنه ما كان على قدر أربعة برد فأكثر، وهو ما عليه جمهور الفقهاء، في قدر المسافة التي يجوز معها الفطر .
(فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) (أُخَرَ) ممنوع من الصرف جمع أخرى، مؤنث؛ لأنه وصف لأيام، والجموع من قبيل المؤنث، والمعنى: فالواجب قضاء عدةٍ مِن أيامٍ أُخر، تكونُ مساويةً لأيام الفطر بسبب المرض أو السفرِ، والمساواة أخذتْ مِن لفظِ (عدة)؛ لأن لفظ العدة يقتضي المساواة (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) على الذين يقدرون على الصوم، وليس لهم عذر إذا أفطروا، أو على الذين يقدرون عليه بمشقة زائدة على المعتاد، مثل الشيخ الكبير والمرأة الحامل والمرضع (فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) عليهم إذا أفطروا أن يعطوا فدية طعام مسكين، مقدر بمُدٍّ مِن القُوت عند فقهاء المدينة، وبنصف صاع من بر أو صاع من غيره عند أهل العراق، وعلى حمل الآية على هذا الوجه الثاني في الشيخ الكبير ونحوه، تكون الآية محكمة، ويكون حكمها باقيا؛ لأنها مختصة بأصحاب المشاق والأعذار، ولا إشكال في ذلك، أما حملها على الوجه الأول: بأن للصائمِ القادرِ على الصومِ الخيار بين أن يصوم أو يطعم، فيكون الحكم منسوخا بإجماع أهل العلم، والناسخ له إمّا قوله تعالى: (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ)، وإما قوله تعالى بعد ذلك: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ).
(فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) خيرًا أفعل تفضيل، أي: أزيد خيرًا، مَن تطوع من عند نفسه، وصام ولم يفطر حينَ أذنَ له في الفطر، أو تطوع بالزيادة على قدر الفدية إذا أفطر، كان ذلك التطوع أزيدَ خيرًا له عند ربه، وكانَ هو أزيدَ خيرًا ممنْ لم يتطوع بالزيادة (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) من اختار الصوم عن الفدية ولم يفطر، فهو خير لمن علم ما يصلح به أمره مع ربه.