المنتخب من صحيح التفسير - الحلقة 91 - تابع سورة البقرة

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

- الحلقة (91).

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [البقرة:174].

هذه الآية كالتي قبلها في هذه السورة: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ)[1] وهكذا في كل آية يستشهد بها، تتوعد على الكِتمان وتحذرُ منه، وتقدَم هناك معنى الكتمان وحكمه، ومتى يجبُ على العلماء البيانُ عينًا أو كفايةً، كما تقدم معنى الشراء في قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى)[2]، وفي قوله: (وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا)[3]، وتقدم الكلام هناك أيضًا على باءِ العِوض، الداخلةِ على متعلقِ مادةِ الشراءِ والاستبدال، وأنّ القاعدةَ فيها دخولُها على العوض المتروك.

وقوله: (ثَمَنًا قَلِيلًا) هو الرشوة، التي يأخذونها على كتمانِ الحقّ، وتسييسِ الأحكامِ الشرعية الجليةِ، الواضح ضررُها بالمسلمين إرضاءً للحكام، وإنزال الفتاوى حسب الطلب، ووصف الثمن بالقليل إشارة إلى أن الرشوة التي تؤخذ نظير الكتمان، لنْ تسدّ حاجة صاحبها، وإن كثرت في نظر آخذها، بأن تجعله مهما أخذَ كمن يأكلُ ولا يَشبعُ.

(أُولَٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) يقال أكلَ في بطنِه إذا ملأها، وأَكلَ في بعضِ بطنهِ إن لم يملأها، فهم يملؤون بطونهم نارًا على وجه الحصرِ، لا يملؤونَها بغيرها.

(وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) لا يكلمهم بل يعرضُ عنهم، إعراضَ غضبٍ وسخط، أو لا يكلّمُهم كلامَ تكريمٍ ورحمةٍ، بل كلام مساءلةٍ ومحاسبةٍ؛ كما قال سبحانه وتعالى: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[4]

(وَلَا يُزَكِّيهِمْ) لا يثني عليهم، ولا يكرمهم ويرفع منزلتهم (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) لأنّ مَن أعرض الله عنه استحقّ الذم وأليم العذاب.

والآية وعيدٌ شديدٌ لكل مَن كتمَ الحقّ، وبخاصةٍ علماء الأمة، فإنّها وإن نزلت في أحبارِ أهل الكتاب وعلمائهم، ففي حكمِهم كذلك كلّ مَن عمل عملهم مِن علماء هذه الأمة، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "إنّ كل ما ذَمّ اللهُ عليه أهلَ الكتابِ فالمسلمونَ محذَّرونَ مِن مثلِه"([5])، ويشهدُ على دخول مَن فعل فعلهم من هذه الأمة معهم، استدلالُ أبي هريرة رضي الله عنه بها، عندما قالوا له: أَكثَرَ أبو هريرة - أي مِن الرواية - فقال: لولا آيةٌ في كتابِ الله ما حدثتُكم حديثًا، وقرأَ هذه الآية: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى)[6].

 

وجوهٌ مِن كِتمانِ الحقّ الذي ابتُليت به الأمةُ في زماننا

وكِتمان أهل العلم المتوعد عليه له وجوه في أيامنا:

 1- كتمانٌ يتعبدُ أصحابُه بالغفلةِ عن فرضٍ مِن فروضِ الدينِ، وهو الجهادُ، سواء بالكلمة أو بالسيف، وعن النّصح لأئمة المسلمين، فلا نُصحَ في الدينِ عندهم لولاةِ الأمورِ، ولا جهاد.

2- كتمانٌ آخر قريبٌ مِن الأولِ، لكنْ لا عنْ غفلةٍ، بل أصحابُه ينصرفونَ عنِ النصح لولاة الأمرِ عن ترصّدٍ وتعمّدٍ، يجعلونَ تركَ النصحِ همَّهم، ومبلغَ علمِهم، يُدندِنونَ حولَ طاعتهِ المُطلقةِ علَى كلِّ أحوالِه؛ أصلحَ أو أفسدَ، حتّى لا يُوقِعوا الناسَ في الفتنةِ في زعمِهم، فعطّلوا رُكنًا مِن أركانِ الدينِ، كانَ على عهدِ النبيّ صلى الله عليه وسلم تؤخذُ عليه البيعةُ ضِمن عقدِ الإيمان، في الصحيحين عن جرير بن عبدِ الله البجلي رضي الله عنه قال: (بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ)[7].

 3- كتمانٌ يُفتي أصحابُه بما يُزيّنُ للحكامِ سوءَ أعمالِهم، فيُلبِسون ظلمَهم وباطلَهم لباسَ الشرعِ، عن عَرَضٍ مِن الدنيا يصلُ إليهم مِن السلطانِ وأعوانِه.

4- كتمانٌ ترتكبُه الجهاتُ العدليةُ؛ مِن نياباتٍ وقُضاةٍ وجهاتِ تحقيق، بانتقاءِ القضايا حسبَ الأهواء، فيصيبُ التجاهلُ والإهمالُ على نطاقٍ واسعٍ قضايا الفسادِ السياسي والإداريّ والمالي، وهي كبيرة وخطيرة، متعلقةٌ بالدماءِ ونهبِ الأموالِ وبيعِ الأوطانِ، لكنّها لا تستحقُّ النظرَ إذا كانتْ تمسُّ أصحابَ النفوذِ والسّلطان. 

وعلى الجانب الآخرِ في بلادٍ أخرى أحكامٌ جاهزةٌ؛ سجونٌ وإعداماتٌ ومصادراتُ أموالٍ وتعذيب وتغييبٌ، وحجرُ حرياتٍ بالجبرِ على الإقامةِ، ليسَ فقط على مَن يُناصحُ أو يُعارضُ، بل أيضًا على مَن يأبَى - إذا كانَ مِن أهلِ الذكر في بلادِه - أنْ يُنافقَ.

إعداماتٌ ودماءٌ بجرةِ قلم، تحصدُ المئات، في مجلسٍ قضائيٍّ واحدٍ، إرضاءً للشيطانِ، على عَرض مِن الدنيا؛ منصب ونفوذ، أو مال ومتاع، يأكلُونَه في البطونِ نارًا، يستوجبُ غضبَ الجبار (أُولَٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

رشاوى السلاطينِ للعلماء وللحكام في دوائرهم العدلية في أيامِنا، لها وسائلُ وأساليبُ متطورةٌ وماكرةٌ، لا تَخفَى على ذِي اللبِّ، الحريصِ على دينهِ، فمنها ما قد يكون ظاهرهُ الحفاوةُ بهم وتوقيرهم؛ ليتبوؤوا مكانتَهم بما يُرضي اللهَ، فيوهمونهم أنّهم ما يعطونَهم إلّا لأنّ ذلكَ حقّهم، لأنّ اللهَ كرّمهم، لا ليرشوهُم ويذلوهم، وحقيقته إذلالُهم بالفتاتِ، الذي لا يساوي عندَهم شيئًا، ليأخذوا بهِ أغلَى ما عندَ العلماء، فإذا ما أخذ العالمُ مِن الظلمةِ في موضعِ ريبةٍ وقعَ في حبائِلِهم.

ومنها أن يُعطَى العلماءُ والقضاةُ الأرزاقَ، والمزايا والهدايا والسفريات، والسيارات الفارهة، والمرتبات العالية، المبالغ فيها مبالغةً كبيرةً، تجعلُ القاضي والعالمَ رهنَ الإشارة، وأسيرَ النعمةِ التي طُوّقَ بها، فيسقُط، ولا يقدرُ بعدَها أن يقومَ.

ومنها أن تكونَ المصانعةُ للعلماءِ، مِن خلالِ ضيافاتٍ في مؤتمراتٍ عقيمةٍ، عديمةِ الجدوَى، مِن أهدافِها شراءُ ولاءاتِ العلماء.

إما بخطبِ ثناءٍ ومديحٍ تُنقلُ في الإعلام، لا تصفُ سياسة الحكامِ - مهمَا بلغتْ مِن الفسادِ - إلّا بالرشيدةِ والحكيمة والموفقةِ والسديدة... إلى آخره، ممّن يصلحُ مِن الضيوفِ لمثل تلكَ الخُطب.

وإما بسكوتهم عنهم في هذهِ المؤتمرات، وهم يرونهم يلاحقونَ إخوانَهم مِن العلماء، القائمينَ بالحقّ، الناصحين به في السرّ والعلن، ويودِعُونهم غياهِبَ السجونِ، يكفيهم في هذه المؤتمراتِ المسيسة مِن بعضِ العلماءِ حضورُهم، في تأييدِ غيِّهم وفسادِهم وظلمِ إخوانِهم، وإن لمْ يتكلموا بشيءٍ (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[8].

فعلى مَن يعلَمون، ويوَقِّعون عن ربِّ العالمين أحكامَه، أن ينتَبِهوا، فإنّ شيوعَ المصانَعةِ مع الحكامِ - الظاهرةِ أو المبطنة - بينَ العلماءِ والقضاةِ والمفتينَ، وهم القُدوةُ، طلبًا للمالِ، أو للحُظوةِ والمنزلةِ عندَ السلطان؛ عنوانُ اضْمِحلالِ الأمةِ، وذهاب حرمةِ العلم وهيبةِ الدّينِ، وعاقبتُه مِلءُ البطونِ مِن النار.

 

[1] البقرة:159.

[2] البقرة:16.

[3] البقرة:41.

[4] الحجر:92-93.

[5]) التحرير والتنوير لمحمد طاهر عاشور (2/65).

[6]) البخاري:2223، ومسلم:562.

[7] البخاري:57،ومسلم:83.

[8] الأنعام:68.

التبويبات الأساسية