بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (115).
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) [البقرة:219-220].
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) السؤال عنهما معناه السؤال عن تعاطيهما وتناولهما، والسائل بعض المسلمين، فقد ورد أن نفرًا جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم منهم عمر رضي الله عنه، فقالوا: افتنا في الخمر، فإنها مُذهبة للعقل مُتلفة للمال؛ فنزلت هذه الآية، فترك الخمرَ قومٌ وشربَها آخرون، حتى نزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)( ) فانتهى الناس، و(الْخَمْر) اسمٌ لما يخامرُ العقلَ، أي يغطيه ويحجبه، ومنه خِمار المرأة، ما يغطي الرأس والرقبة والصدر، كما قال تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ)( )، ويطلق الخمرُ عُرفًا على كلِّ شرابٍ مُسكرٍ، وإن كان قد غلب إطلاقُه على عصير العنب، ويدل على إطلاقهِ على كلِّ مسكر قولُ الله تعالى: (وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)( ) فسوَّى بين النخيل والأعناب، في اتخاذ السكر منهما، وفي حديث ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قالَ: خَطَبَ عُمَرُ رضي الله عنه عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ تَحْرِيمُ الخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: العِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالعَسَلِ، وَالخَمْرُ مَا خَامَرَ العَقْلَ)( )، وفي حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه مرفوعا: (إِنَّ الْخَمْرَ مِنَ الْعَصِيرِ وَالزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ)( )، وقال صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ)( ). (وَالْمَيْسِر) اسم جنس أو مصدر من يُسر، كنُحس: هو القِمار، سمي بذلك لأخذ المال فيه بيُسر، دون وجه حق، والأيسر لاعب الميسر، وكان في الجاهلية لاعبو الميسر عشرة، بعدد قِداح الميسر، والقداح سهام صغيرة من الخشب، ليس لها رؤوس، كل قدح منها يحمل اسمًا، سبعة منها مرقمة عليها حظوظها، من واحد إلى سبعة، وثلاثة ليس عليها شيء، تسمى غُفلا، ويتم القمار عليها بأن يشتري العشرة الجزور بالدين، للأكل بمجلس للشراب، ويجلسون للميسر، فتوضع السهام في خريطة "حافظة"، لا تسمح فتحتها بخروج أكثر من سهم واحد، ويؤمر الذي يدير الميسر بتحريكها حتى تختلط، ثم تكفأ على اسم أحدهم في كل مرة، أن يقال: الذي يخرج هو سهمك يا فلان، إلى آخر القداح، فالثلاثة الذين خرجت قداحهم غُفلا هم مَن خسر، ويؤدون ثمن الجزور، وهكذا كان الشراب عندهم مرتبطًا بالمسير، ولذا ذُكرا في الآية مقترنين فيما وُصفا به من الرجس، والإثم: معصية الله تعالى بفعلِ ما هو مذمومٌ في الخمر، وهو شربُها، وما ينشأ عنه من ذهابِ العقل، فيصير شاربُها سخريةً بين الناس، وذهابِ المال، حتى كان الواحد منهم يرهن ثيابه عند الخمار، وكذلك الميسر؛ يرزأُ المالَ، ويصدُّ عن ذكرِ الله وعن الصلاة، وما يثيرانه من البغضاء والشحناء، وما تخلفه الخمر من أمراضٍ في العقل وفي البدن ضارة، صارت متفقًا عليها بين أهل الاختصاص، ناهيك بذهاب مروءة شاربها واحتقاره، لذا فإنّ مِن العقلاء مَن حرَّمها على نفسه في الجاهلية، قبل أن يحرمها الإسلامُ، منهم أبو بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وعثمان بن مظعون رضي الله عنهم (وَمَنَافِعُ) جمع منفعة، اسم مكان أو مصدر ميمي، كمصلحة ومفسدة، ومنافع الخمر والميسر ما فيهما من التجارات والمكاسب، والنشوة واللذة، والمنادمة والصحبة، وغير ذلك، والخمر عند العرب كانت كالقُوت، لا يصبرون عليها، وتسوِّلُ لهم أنفسهم أنهم لا يقدرون على الاستغناء عنها، لذا كان تحريمُها عليهم شاقًّا، واقتضت الحكمة أن يكون متدرجًا على مراحلَ؛ ليخفَّ تعلقُهم بها شيئًا فشيئًا، قال أنس رضي الله عنه: "حُرّمت الخمر، ولم يكنْ يومئذ للعرب عيشٌ أعجبَ منها، وما حُرم عليهم شيءٌ أشدّ عليهم مِن الخمرِ"، وقالت عائشة رضي الله عنها: (وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ: لاَ تَشْرَبُوا الخَمْرَ، لَقَالُوا: لاَ نَدَعُ الخَمْرَ أَبَدًا)( )، وكانت أول إشارة إلى الخمر في القرآن آية النحل: (وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)( ) نزلت بمكة، ثم نزلت هذه الآية في البقرة بالسؤال عنها وعن الميسر، فجاء الجواب أقربَ إلى التحريمِ، وليس نصًّا فيه، حيث ذكرت الآية ما في الخمر والميسر من المنافع، وذكرت أن فيهما إثمًا كبيرًا؛ لما يؤدِّيان إليه من ارتكاب المحظورات، وأكل المال بالباطل، ولذا سميت الخمر أمّ الخبائث، ووصْفُ إثمهما بالكبير، يشيرُ إلى أن نفعهما في ميزانِ الله قليلٌ، لا يُلتفت إليه، وأنّ أثمهما كبيرٌ يجب الحذر منه، لذا اكتفى بعضُ الصحابة بهذه الآية في تحريمِ الخمر، وكَفَّ عنها، ولشدة التعلق بها بقي آخرونَ يرجونَ أن يبينَ الله فيها بيانًا شافيًا، حتى إن أحدَهم كان يصلِّى وهو شاربٌ، فخلطَ في القراءةِ، فنزلت آية النساءِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ)( )، فزاد بذلك التضييق فيها، وتركَها الناس أوقاتَ الصلاة، فلما تهيأَ الناسُ لفطمِ نفوسِهم عنها، نزلت آيةُ المائدةِ، فكانت البيانَ الشافي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)( ) فتركوها، وقالوا انتهينا. (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) العفو معناه الزيادة والنماءُ، مِن عفَا يعفُو إذا زادَ، ومنه: (ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا)( )، أي كثر خيرهم، ومنه الحديث: (وأَعْفُوا اللّحَى) ، والعفو أيضًا اليُسْر، وهو المعنى في الآية، فقد سَألَ بعضُ الصحابة النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن الذي ينفقونَه من أموالهم، عن قدرِه ووصفِه، فقيل لهم: العفو، أي ما زاد عن الحاجة، وهو السهلُ على النفس، الذي لا يشقُّ فقدُه، لا الجَهد الذي يثقل ويشقُّ، وفي صحيح الحديث: (خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى)( ) أي: ما أبقى فيها الإنسانُ لنفسه من مالهِ ما أغناه، ولم يشقّ على نفسهِ (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ) كاف التشبيه صفة لمصدر محذوف، أي: مثل ما عودَكم الله من البيان لسائر أحكامهِ، يبين لكم بيانًا مماثلا فيما أخبركم بهِ من الإنفاق من العفو، وما قبله في أمر الخمر والميسر، وما اشتملا عليه من المفاسد الكبيرة والمنافع القليلة (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) الغاية من هذا البيان المتعلق بالإنفاق وبغيره، لأجل أن تكونوا على بصيرة وفهم في كل شؤون الدنيا والآخرة؛ لتأخذوا فيها بأسباب النجاح والفوز.