المنتخب من صحيح التفسير -الحلقة 162- تابع سورة آل عمران

بسم الله الرحمن الرحيم 
المنتخب من صحيح التفسير 
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني. 
- الحلقة (162).

(إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[آل عمران:35-37].
 
(إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا)() امرأة عمران هي أم مريم، نذرت ما في بطنها من الحمل  بعد ولادته لخدمة بيت المقْدس، حالة كونه محررًا مخلصًا لتلك الخدمة، لا يشغل بأي شيء آخر يلهيه عنها، وكانت أم مريم حبلى، وأمّلت أن يكون ما في بطنها ذكرًا، لأنهم كانوا ينذرون لخدمة المسجد الذكور، فتمنّت ذلك، ودَعَت ربها أن يتقبل نذرها (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا) أي لمّا وضعت ما في بطنها، وأنّث الضمير؛ لأنّ ما في بطنها كان في واقع الأمر الذي يعلمه الله أنثى، وجملة (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى) وإن كان ظاهرها خطاب وإخبار من أم مريم للباري بما في بطنها، لكنه خبرٌ في معنى الإنشاء، إذ لا يراد به حقيقة الإخبار؛ لأنها تخاطبُ العليمَ الخبيرَ، وإنما أرادت به إنشاء التحسر والتأسفِ عمّا فاتها، مما كانت تنتظره من كون مولودها ذكرًا؛ لأنه كان لا يصلح في عرفهم لهذه الخدمة إلا الذكور (وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ) اللهُ أعلم بما وضعت وبغيره، فلا يحتاج أن تخبره به أنه أنثى، وفائدة الإتيان بهذه الجملة المعترضة (والله أعلم بما وضعت) الإخبارُ بأنه يعلم ما لا تعلمُه هي، فقد اختار اللهُ لها خيرًا مما كانت تتمناه، اختارتْ  أن تلد ذكرًا ليخدم المسجد، واختار لها أنثى ليستْ كسائر النساء، امرأة فُضلت على نساء العالمين، وستكون أمًّا لنبيّ، وفيه تنبيه على أنه لا ينبغي تعقبُ حكم الله باستحسانِ العقول.  
(وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى) قالت مريم وهي تتأسف على ما فاتها: ليس جنسُ الذكر كجنسِ الأنثى، أي أنّ التسوية المطلقة بينهما منتفيةٌ، وأنهما لا يستويان فيما يصلحان له مِن كلّ وجه، فما يصلح له أحدهما قد لا يصلح له الآخر، وهذا بيّنٌ ظاهرٌ بالطبعِ والشرع، فهناك جوانب ومهام ينفعان فيها معًا، وجوانب جسمانية وعقلانية يختلفان فيها، وبتعاونهما عليها وتولي كلّ طرفٍ منهما ما يحسنه يكتملانِ، ولذلك سمي كلّ واحدٍ منهما زوجًا للآخرِ، ومَن أعرض عن الخصوصيات التي أودعها الله تعالى في كل منهما، وطلب المساواة المطلقة بينهما؛ فقد ارتكب الشطط، وجمع بين الضدين، وجعل شيئًا واحدًا ما جعله الله شيئين، فالله يقول: وليس الذكر كالأنثى، فأم مريم أرادت بالتشبيه الذي نفته نفي التسوية المطلقة بينهما، أي أن بينهما فروقًا، ولم ترد به إلحاق الناقص بالكامل، كما هي القاعدة في التشبيه، عندما تقول عن المصباح: ليس ضياؤه كضياء الشمسِ، وإلا لقالت: وليس الأنثى كالذكر، وقدم في الآية الذكر على الأنثى؛ لتعلق نفسها بأن تحمل  به، على عادة الناس في حبهم ولادة الذكور، ولأنها كانت تؤمله لخدمة بيت المقدس، ولكنها سرعان ما رجعتْ، وأظهرتِ الرضا بمَا أُعطيت، فقالت: (وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) فاختارت لها اسما محببًا مباركًا، فمريم اسم معرّب، أي نقلته العرب من اللغات الأخرى، وأصله مارية بمعنى جارية، أو عابدة، ودعتْ ربّها: إنّي أستجيرُ بك لتحفظَها وتتولاها وترعاها، وتحفظَ ذريتها مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، المرجومِ المطرودِ مِن رحمةِ الله، وقد سمعَ الله دعاءَها، فقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا وَالشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ حِينَ يُولَدُ، فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ، إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا)()، أي أنه ما مِن مولودٍ يولدُ إلّا والشيطانُ يطمعُ في إغوائه، إلا مريم وابنها، فإنّ اللهَ تعالى حفظهما مِن ذلك ببركةِ هذا الدعاء، وهذا الحكمُ أغلبيّ، فقد حفظَ اللهُ غيرهما - من أهلِ الصلاح - مِن إغواء الشيطانِ، قال تعالى عن توعدِ الشيطان بالغواية: (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)()، ولحرص أمّ مريم الشديدِ، أتتْ في الألفاظ التي دعتْ بها بإنَّ المؤكّدة؛ إشعارًا بتمامِ الرضى، ومحبتها لهذهِ الأنثى بعدَ أنْ رُزِقَتها.
(فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ()وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا) الفاء في: فَتَقَبَّلَهَا تفيد التعقيب من غير تراخٍ، أي: فجاء الجواب من الله تعالى للوقتِ والحينِ، عقب الدعاءِ، بقبوله دونَ تأخير، تقبّلها ربها، وتقبل نذرَها، وعلامة هذا القبول أنه سخرها للانقطاعِ للتبتلِ والعبادةِ في المحرابِ، وخدمةِ بيتِ العبادة، وهو ما كانت تريدُهُ أمّها، مِن جعل ما في بطنها محررًا لخدمةِ بيت المقدس، والتنكير في قَبولًا للتعظيم، أي تقبلها بقبولٍ عظيمٍ غايةٍ في الحسنِ، ومن حسن قَبولها إكرامُها بما يأتيها من أنواع الرزق والثمارِ في غير أوانِهِ، وأنه جعل كفالةَ يتمِها بعد موتِ أبيها - الذي مات قبل ولادتِها - لزكرياء، وكان من كبار عبّادِ بني إسرائيل وأحبارهم، وزوجًا لخالتِها، وقد أوحَى الله إليه بالنبوةِ على كِبَر، فتهيأت لمريمَ ظروفُ المربّي الديّنِ الحريصِ، فنبتتْ نباتًا حسنًا، ونشأتْ في وسطِ العبادةِ والعفةِ والصلاحِ.      
(وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)().  
(الْمِحْرَابَ) بناءٌ يتخذ للخلوةِ والانقطاعِ للعبادةِ والصلاةِ، وليس هو المحراب المعروف اليومَ داخل المساجدِ، الذي يقف فيه مَن يؤمُّ الناسَ، فهذا محدَثٌ، ولفظه مولد، وأولُ محراب وضعَ في المساجدِ كان في مسجدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، في إمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة، وخلافة الوليد بن عبد الملك.
(أَنَّى لَكِ هَذَا) من أين لك هذا؟ استفهام يراد به التعجب (بِغَيْرِ حِسَابٍ) بغير حصرٍ ولا حدٍّ ولا عدٍّ، والمعنى: كلما دخلَ زكرياء في أي وقت من الأوقات على مريم، في محرابها الذي خصصته وانقطعت فيه للعبادة، وجدَ عندها طعامًا وثمارًا لا عهد للناس بها في ذلك الوقت، فيقول لها متعجبًا: من أين جاءكِ هذا الرزق، الذي لا يوجد في هذا الوقت من العام إلا عندك؟ وكيف وجدتيهِ في غيرِ وقت وجودِهِ؟ فتجيبه: لا تتعجبْ، فهو مِن عند اللهِ، واللهُ يرزقُ مَن يشاء رزقًا واسعًا كثيرًا، بغير حسابٍ ولا عدٍّ.

التبويبات الأساسية