بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (44).
(فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ).
(فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا): بَدَّلَ تنصبُ مفعولينِ، تتعدّى إليهما بلا واسطةٍ؛ كما في قوله تعالى: (فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ)[1]، ويكون الأول منهما هو المتروك، وتتعدّى إلى واحدٍ بنفسِها وإلى الآخر بالباء؛ كما في قوله تعالى: (وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ)[2]، فيكون ما دخلت عليه الباءُ هو المتروك، وهُنا يجوزُ في إعرَابها الوجهان، فعلى الوجه الأول يكون (قولا) مفعولًا أولًا وهو المتروكُ، و(غيرَ الذِي قِيلَ) المفعول الثانِي المأْخُوذ، وعلى الوجهِ الثاني يكونُ (قولًا) المفعولَ الثانِي، والمفعول الأولُ المتروكُ مجرورٌ بالباءِ محذوفٌ، تقديرُه: فبدّلَ الذينَ ظَلَموا بقولِهم قولًا، و(غَيرَ الّذِي قِيلَ) نعتٌ مكملٌ له، فيكون (قولًا غيرَ الذي قِيلَ لَهمْ) هو المأخوذ.
والإتيان بالظاهر (قولًا) دونَ الضمير - كأنْ يُقال: (فبدَّلُوهُ) - حتى لا يُتوهّم أنهم بدلوا لفظَ (حِطّة) فقط، وامتثلُوا ما عَدا ذلك، بل هم بدّلوا أكثرَ مِن ذلك.
وقد جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة: (أنّ الذِي بدَّلُوا بهِ هو دخُولُهمْ يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ، وَقَالُوا: حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ)[3]، استخفافًا واستهزاءً بالقول الذي أُمِروا به، بأن يقولوا حِطّة.
والظاهرُ أنّ باقي العشرة الذين دخلوا القرية مختبِرِين؛ لمعرفة خيراتها وقدرةِ قومِهم على فتحِها، استهزؤوا بالكلام الذي أمرهم به موسى، فحرّفوه وبدَّلوه، وكَنَّوا بما بدّلوه عنْ يأسِهم مِن دخولِ الأرض المقدسة، تثبيطًا لهِمَم قومِهم، وصوَّروا ذلك بأنّ محاولتهم فتحَ الأرضِ المقدّسةِ كمحاولةِ ربطِ حبةٍ بشعرةٍ، في التعذّرِ والصعوبةِ، وهذا في الحقيقة ليس كلّ ما بدلُوا، فقد ذمّوا الأرضَ المقدسةَ، وقالوا لا تصلح، ولا فائدة منها، وأنّ أهلَها جبابرةٌ، وغير ذلك.
(فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ): عاقبَ الله تعالى مَن بدّلوا القولَ مِن الاثني عشرَ، الذين أُرسِلوا ليستطلعوا لقومهم الأرضَ المقدّسة، فحرَّف عشرة منهم، ولم يكونوا أمناءَ، وقالوا: (إنّ فيهَا قومًا جبارينَ)[4]، فأصابهم رجز؛ عذابٌ هو وباءُ الطاعون، أتاهُم من السماء، ليس له سببٌ أرضي، وأصاب مَن بدّلَ بأعيانِهم فأماتَهم، ولم يصبْ غيرهم، ليعلموا أنه عقوبةٌ لهم على التبديل، ولهذا أتى بالظاهر في قوله: (فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)، دون (فأنزلنا عليهم) حتى لا يتوهم أنه أصابهم وأصابَ غيرهم.
ثمّ عاقب الله تعالى بني إسرائيل على تخاذلهم عن دخول الأرض المقدسة، وجبْنِهم من الجبابرة عقابًا آخر، هو أنها محرمةٌ عليهم أربعين سنةً، يَتيهونَ في الأرض، في صحراءِ التّيهِ، في مكان مِن الأرض صغيرٍ، يدورونَ حولَه ولا يهتدونَ، كما قال تعالى: (فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ)[5].