بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (181)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)[آل عمران:102-103].
نداء آخر للمؤمنين، أمرهم الله فيه بالتقوى لِيثْبتوا، وحتى لا تؤثرَ فيهم شائعات الأعداء ودسائس المنافقين، والتَّقْوى: تركُ المعاصي وفعلُ الطاعات، بامتثالِ الأمرِ واجتنابِ النهي، وتقدمتْ أولَ سورة البقرة، في قوله: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)([1]).
و(حَقَّ تُقَاتِهِ)([2]) أي حقّ التقوى: وهو استفراغُ الوسع، وبذلُ غايةِ الجهدِ في تحصيلِها، كما قال تعالى: (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)([3])، ومن حق التقوى عدمُ التظاهرِ فيها بما ليس منها رياءً، قال ابن مسعود: “هو أن يُطيعَ فلا يَعصِي، ويَشكرَ فلا يَكفر، ويَذكرَ فلا يَنسَى”([4]) (وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) الزَموا الإسلامَ وتمسّكوا به، حتى يأتيَكم الموتُ وأنتم مسلمون، وتقدمت هذه الآية في البقرة: (إِنَّ اللهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)([5])، وذكرت هناك القاعدة في مثل هذا النهي، فالنهي في (ولا تموتن) في الحقيقة غير متوجهٍ إلى الموتِ، بحيث يتحكمون فيه، ويجعلونه في وقتٍ دون وقتٍ؛ لأنهم لا يملكون ذلك، ولا هو متوجهٌ إلى المفارقة للإسلام وقتَ الموت، لما يقتضيه بالمفهومِ مِن جوازِ مفارقةِ الإسلامِ قبلَ الموت، وهو ظاهرُ الفسادِ، وإنما النهيُ متوجهٌ إلى ما في مقدورهم، وهو النهي عن الكفرِ ومفارقةِ الإسلام طول الحياةِ، حتى إذا ما جاءَ الموتُ وافاهُمْ على الإسلامِ.
(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) الاعتصام: من العصمة، فالأمر بالاعتصام معناه: طلب المنع من مفارقة الدين، ووجوب التمسك (بِحَبْلِ اللهِ) والحبل معروف، وهو: ما يتعلق به للوصول إلى شيء، فهو كنايةٌ عن التمسكِ والتعلقِ بالدِّين الذي به النجاةُ، فكما أن التعلق بالحبل سببٌ للسلامةِ مِن السقوط، فكذلك التمسكُ بالدين سببٌ للنجاة يوم الفزع، وقوله: (جَمِيعًا) حال، أي: تمسكوا به حال كونكم مجتمعين (وَلَا تَفَرَّقُوا) كما تفرقَ أهلُ الكتاب، ولأهمية اجتماعِ الكلمةِ ووحدةِ الصفِّ، جاءَ الأمر بذلكَ أولًا بصيغةِ الأمرِ في (واعتصِمُوا)، ثم أُكدَ بصيغةِ النهيِ عنِ التفرقِ (وَلَا تَفَرَّقُوا)، فإنّ الفرقةَ والخلافَ شرّ، وهو الخذلانُ والفشل.
(وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) اذكروا نعمةَ الله عليكم بالإسلام، وقد كُنتُمْ قبله في الجاهلية تتقاتلونَ في حروبٍ طويلةٍ طاحنةٍ، تدومُ عشرات السنين، كالحروب التي كانتْ بين الأوسِ والخزرج، دامتْ مائةً وعشرين سنةً في الجاهلية، واستمرتْ إلى ما قبلَ الهجرة (فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) فحصلتْ لكم الألفةُ بالإسلام، وهذه أولُ المننِ عليهم وأعظمُها، ولا ينتقضُ هذا بما عليه المسلمونَ اليومَ مِن الفرقة والحروب؛ لتركِ المسلمين لدينهم، وارتماءِ حكامهم في أحضانِ أعدائِهم، وموالاتهم لهم على المسلمين (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) متحابّين، فبدَّلكم الإسلامُ بالعداوةِ محبةً وأخوةً، والباء في (بِنِعْمَتِهِ) للمصاحبة، على معنى: فأصبحتْ بمجيء الإسلام النعمةُ مصاحبةً لكم، وأنتم مصاحبين لها، والإخوانُ: جمع أخٍ، كالإخْوة، يجمعُ على ذلك سواء كانت الأخوةُ مِن النَّسبِ، أو الصداقةِ والمودة، أو أخوةِ الإيمان، قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)([6])، وقال في أُخوّة النسب: (أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ)([7]).
(وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا) الشَّفا كالشَّفه: الحرفُ والطرفُ والحافة، كحافةِ القليب، والبئر، والأخدود، مَن وقفَ عليها كان قريبًا مشرفًا على السقوط في المَهْوى، والخطابُ للمؤمنين مِن أصحابِ النبي صلى اللهُ عليه وسلم، وهذه النعمةُ الثانيةُ عليهم بالإسلامِ؛ كُنتُم قريبين ومشرفين في جاهليتكُم على أن تمُوتوا على ما أنتمْ عليه مِن الكُفر، فتَسقُطوا في النار، ولكنَّ الله منَّ عليكم بالإسلام، والهدايةِ للإيمان، فأنقذكم من النار، فضمير (مِنْهَا) يعود إلى النار، أو إلى الشفَا المؤدية إلى السقوط في النار([8]).
وما جَرى على الصحابة مِن مِنّة الإنقاذِ مِن النار بالإسلامِ، يجرِي على مَن بعدهم، ممن مَنَّ اللهُ عليه بالإسلام، وكان على الكفرِ، أو أوجدَهُ اللهُ مِن أبوَينِ مسلمَين، فكان على دينِهما (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) وهذه نعمةٌ ثالثةٌ، نعمةُ التعليم والإرشادِ والبيان، ومخاطبةِ الناسِ بالحجةِ والبرهان، لتستنيرَ العقولُ بنور الإيمان، أي: كمِثلِ هذا البيانِ والتفصيلِ الواضحِ البيِّنِ، يبيّنُ الله لكم البراهينَ والحجج، وتأتيْكُم الآيات، آياتُ الوحي المتلوّة، وآياتُ التدبرِ الكونية فيما خلق الله، وآيات بمعنى المعجزات الخارقة، التي يظهرُها الله على يدِ أنبيائه، كل ذلك يبينه الله حرصًا على هدايتكم، كما قال تعالى: (يبينُ اللهُ لكم أنْ تضِلُّوا)([9]).
[1]) البقرة: 2.
[2]) أصل تقاة: وُقَيَة كتُخَمَة، قلبت الواو تاء، والياء المفتوحة ألفًا لمناسبة الفتحة.
[3]) البقرة: 132.
[4]) القضاء والقدر للبيهقي: 293.
[5]) التغابن: 16.
[6]) الحجرات: 10.
[7]) النور: 61.
[8]) وصح عوده على (شفا) مؤنثًا لاكتساب شفا التأنيث من المضاف إليه (حفرة)؛ فإن المضاف إذا كان بعضًا من المضاف إليه يكتسبُ منه التأنيث، على حدِّ قول الأعشى:
وَتَشرَقَ بِالقولِ الَّذي قَد أَذَعتَهُ كَما شَرِقَتْ صَدرُ القَناةِ مِنَ الدَمِ
[9]) النساء: 179.