المنتخب من التفسير -الحلقة 250- سورة النساء

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

الحلقة (250)

[النساء:88-90].

 

(فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا)[النساء:88].

جاءَ في صحيح البخاري، في سبب نزول الآية: عَن زَيدِ بنِ ثَابِتٍ قَال: رَجَعَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أُحُدٍ، وَكَانَ النَّاسُ فِيهِمْ فِرْقَتَيْنِ: فَرِيقٌ يَقُولُ: اقْتُلْهُمْ، وَفَرِيقٌ يَقُولُ: لاَ، فَنَزَلَتْ: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾، وَقَالَ: (إِنَّهَا طَيْبَةُ، تَنْفِي الخَبَثَ كَمَا تَنْفِي النَّارُ خَبَثَ الفِضَّةِ)([1]) فلم يقتلهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم؛ لمصلحة الدعوة حينها، وقال: (لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ)([2])، وقيل: نزلت في قومٍ مِن أهلِ مكةَ هاجرُوا، ثم استأذنُوا في الرجوع إلى مكة؛ ليأتوا بأموالِهم ويَتَّجِرُوا بِها، فاختلفَ فيهم الناسُ، وقيل في سببِ النزولِ غير ذلك، ولا مانعَ أن يكونَ سببُ النزول متعددًا، في المنافقين وفي أهلِ مكة، وقوله (فَمَالَكُمْ) تفريعٌ عن حالِ المنافقين، الذينَ يتظاهرون بالطاعة للنبي صلى الله عليه وسلم ثم يخلفون، في قوله المتقدم (وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ)    وما بعده، والخطابُ في قوله (فَمَالَكُمْ) للمُؤمنينَ (فِي الْمُنَافِقِينَ) في شأن المنافقين، لا في ذواتهم([3]) (فِئَتَيْنِ) أي جماعتين، وسميتِ الجماعةُ فئةً؛ لأنهم يَفيئون ويرجعونَ في شؤونهم إلى بعضٍ، والاستفهام للتعجيبِ مِن حالِ المؤمنين، أي: ما لكم منقسمين في شأن المنافقين جماعتين؟ (وَاللهُ أَرْكَسَهُم) ردّهم على أعقابِهم وأضلَّهم، أو أوقعَهم على رؤوسِهم منكسِينَ في النار، لأنهم ركسٌ ونجسٌ (بِمَا كَسَبُواْ) الباءُ للسببية، أي بسببِ أعمالِهم، وتمادِيهم على الكفرِ، وعلى الحسدِ والعنادِ، وسوءِ الاعتقاد، فقد وصلُوا إلى هذا الحالِ – مِن تنكيسِهم في النار على رؤوسِهم – بسببِ عصيانِهم، فالأعمالُ تتكاثرُ من جنسِها؛ العملُ الصالحُ يزكي اللهُ أهلَه، ويزيدُهم صلاحًا، وعملُ السوء يخذلُ اللهُ أهلَه، ويزيدُهم ضلالًا، قال تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ)([4])، وقال تعالى: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)([5]).

(أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللهُ) استفهام ثانٍ فيه معنَى اللَّوم، للزيادة من التعجيب من حالِ المؤمنين، كيف يختلفونَ في المنافقين؟ وينقسمونَ في الحكم عليهم بالإيمانِ والكفر، مع ما يرونَه منهم مِن العداءِ للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وكان عليهم أنْ يتّفقُوا على كفرِهم؛ لما يَرَوْن مِن فعلِهم، فلامَهم اللهُ على الاختلاف في حكمِهم على المنافقين طمعًا في إيمانهم، مع ما هُم عليه من الكفرِ البيّن، فإنّ مَن أضلَّه اللهُ لن يجدَ طريقَه إلى الهدى، مهما أجهدتَ نفسَكَ معه، وهذا اللومُ المتكررُ للمؤمنين على انقسامِهم في الحكم على المنافقينَ، سببه أنه ناشئٌ عن اجتهادٍ خاطئٍ، استُعمل فيه العقلُ مجردًا عن الدليل، وهو يدلُّ على أنَّ المجتهدَ عن غيرِ دليلٍ، أو عنْ دليلٍ ضعيفٍ؛ مُلامٌ على خطئِهِ، وليسَ مأجورًا، فحصول الأجرِ على الاجتهادِ وإنْ كانَ خطأً، محلُّه أنْ تُستَعمل فيه الأدلةُ الشرعيةُ، بالقواعدِ الصحيحةِ المعتبرةِ.

(وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا)[النساء:89].

(وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا) ودُّوا: تمنّوْا، والضمير عائد على مَن تقدمَ ذكرُهم، وهم المنافقون، فأنتم تريدونَ أن يَهتدُوا، وهم يَتمنونَ كفرَكم، فشتّانَ بينَ ما تريدونَ وما يتمنونَ، والإتيانُ بلفظِ التمنّي لما يريدهُ المنافقون؛ يدلُّ على أنّهم لم يحققُوا ما أرادُوا مِن المؤمنين، ولم يفلِحُوا (فَتَكُونُونَ سَوَآءً) عطفٌ على (تَكْفُرُونَ) أي: تكفرونَ كما كفَرُوا، فتكونونَ مثلَهم في الكفرِ، فاجتنبُوهم، واحذروا أن تتخذُوهم أولياء (حَتَّى يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ) سبيل الله: الطريق الموصل إليه، بامتثال أمرهِ وتركِ ما نَهى عنه، والنَّاسُ جميعًا مأمورونَ بسلوكِ هذا الطريقِ، والمعنى: لا تتولّوهم حتّى يتبيّنَ لكم صدقُ إيمانِهم بالهجرةِ لمن لمْ يُهاجر، طلبًا لمرضاة الله ونصرةِ دينه، وبالصدقِ في الخروج إلى الجهادِ، الذي يُختبرُ به إيمانُ المنافقين ممنْ كان في المدينة منافقًا، فلا تكنْ بينكم وبينَهم موالاةٌ، حتى تحصلَ الهجرةُ لمن نكصُوا عنها، وعادُوا إلى قومِهم، على ما جاءَ في بعض أسبابِ النزول، وحتى يخرجُوا معكم إلى الجهادِ في سبيلِ الله، إن كانوا من المنافقينَ الذين خذلُوكم في الغزوِ، بعد أن خرجُوا معكم، فجعلَ اللهُ غايةَ النهيِ عن موالاتِهم تَبيُّنَ صِدقِ إسلامِهم؛ إمّا بالهجرة لمن كان في مكة، أو بالخروجِ للجهادِ ممن كان مِن المنافقين (فَإِن تَوَلَّوْا) بأنْ بقيَ حالهم على ما هُم عليه، ولم يَظهرْ إيمانُهم بالهجرةِ أو الجهادِ (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ) فهم كسائرِ الكفارِ المحاربين، يجبُ قتالُهم حيثُ وجدتمُوهم (وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) ويجبُ اجتنابُهم بالكلية، فلا تتخذُوهم أولياءَ، ولا توادُّوهم، ولا تَقبلُوا لهم نصرةً.

(إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا)[النساء:90].

(إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ) استثناءٌ من قوله (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ) أي: إلّا الذينَ يكونون منتسبينَ إلى قومٍ بينكم وبينهم عهدُ أمانٍ، أو يلتحقُونَ بمَن لهم معكم عهدٌ، فيجبُ أن تكفُّوا عنهم (أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) أي: ضاقتْ صدورهم مِن الجبن والخوف، ووقعُوا في الحرَج، وأصلُ الحصَر: ضيقُ الصدر، وقوله (أَوْ جَآءُوكُمْ) معطوفٌ على المستثنى، أي: إلا الّذينَ يكونونَ مِن قومٍ بينكم وبينهم عهدٌ، أو جاؤُوكم واقعين في الحرج، ضاقت صدورهم بهِ؛ هل يقاتلونكم، أو يقاتلون قومَهم؟ فهم لا يستطيعون أن يقاتلوكُم؛ لأنهم أسلمُوا، ولا أن يقاتلوا قومهم مِن أعداءِكم؛ لما بينهم وبينهم مِن النسبِ، فقوله (أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ) أي امتنعُوا عن أنْ يقاتلُوكم، أو خشيةَ أنْ يقاتلُوكم ويقاتلُوا قومَهم، لِمَا وقعوا فيه من الحرجِ، وهذه إمّا أن تكونَ محمولة على حالةٍ خاصةٍ، أَقرَّ عليها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بَني مُدْلِج؛ لِمَا عَلمَ مِن صدقِ إيمانِهم، فأعفاهُم في بدايةِ الأمر مِن مُقاتَلة قومِهم لمصلحة الدعوةِ، كمَا نَهى عن قتالِ المنافقينَ لئلَّا يُقال إنَّ محمدًا يقتلُ أصحابهُ، فينصرفُ الناسُ عن الدين، وإمَّا أن يكونَ عامًّا في كلِّ مَن تركَ مِن القبائلِ قومَه المحاربين، ولحقَ بالمعاهدينَ، وكفّ عن قتالِ الفريقَينِ، فتحققَت بذلكَ للمسلمينَ مصلحةُ تحييدِهم مِن صفّ العدوّ، في وقت كانَ المسلمونَ محتاجينَ إلى ذلك، ولم يستمرَّ ذلك بعد أن قويتْ شوكة الإسلام، فقد كان المسلم يقتلُ أباه الكافرَ، ويقتلُ أخاهُ، ولا يُبالي، وكانت موادعتُهم لكُم واعتزالُهم القتالَ، ولم يناصروا قومهم عصبيةً وحميّةً، مِنّةً مِن الله عليكم، بأنْ ألقَى في قلوبِهم الرعبَ، فلو شاءَ الله لسلطَهم عليكُم، ولقاتلُوكم، فقوله (فَلَقَاتَلُوكُمْ) عطفٌ على (لَسَلَّطَهُمْ) فهي أيضًا واقعةٌ في جوابِ (لو)، واقترانُها باللامِ الجوابية يدلُّ على استقلالها بالجواب، أي: ولو شاءَ الله لقاتَلُوكم (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) السَّلَم: الانقياد والاستسْلام، أي فإن اعتزلَكُم وكفَّ عن قتالِكم هؤلاء الذينَ حصرتْ صدورهم، وأسلموا، وامتنعوا عن قتال قومِهم المشركين، وكذلك المنافقونَ الذين اختلفتم في الحكم عليهم، إذا أمنتموهم ولم يقاتلوكم، أو يتحالفوا مع من قاتلكم، وانقادوا إلى الاستسلام لكم (فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا) ما جعل لكم وسيلةً على مؤاخذتِهم وقتالهم، وذكرُ السبيل للمبالغةِ في الكفّ عنهم، وعدمِ التعرّضِ لهم؛ لأنّ مَن لا يمرُّ بشيءٍ ويسلك طريقه، لا يُتصورُ تعرضُهُ له.

[1]) البخاري:4589.

[2]) البخاري:4905.

[3]) الجار والمجرور (فِي الْمُنَافِقِينَ) متعلق بـ(فِئَتَيْنِ) في محلِّ حالٍ، وفئتين حالٌ من الضمير في (مَالَكُمْ).

[4]) محمد:17.

[5]) الصف:5.

التبويبات الأساسية