المنتخب من صحيح التفسير -الحلقة 114- تابع سورة البقرة

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

- الحلقة (114).

(وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [البقرة:217-218].

بعد أن أخبر الله عن وهن كيد الكافرين في رد المسلمين عن دينهم، وأنهم لن يقدروا على ردهم عن دينهم بصفة جماعية، عقب ذلك بتحذير المسلمينَ أن يستدرجهم أعداؤهم بالشبهات إلى الارتداد عن دينهم، فيجنوا بذلك على أنفسهم، فقال: (وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ) إلى آخر الآيات. (يَرْتَدِدْ) يترك دين الإسلام، ويتحول إلى دين آخر (فَيَمُتْ) معطوف على الشرط (يَرتَددْ)، والمعطوف على الشرط شرط (وَهُوَ كَافِرٌ) جملة حالية (فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ) جزاء للشرط، فجزاء الردة حبط العمل، مِن حَبِطَ كسَمِعَ، والمصدر الحبْط: وهو ذهاب أثر العمل ومحوه، كأن لم يكن (فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) حبط الدنيا يفقد به المرتد كل الحقوق المتعلقة بأحكام المسلمين مع غيرهم، كالزواج والميراث، والمتعلقة بصحة الأعمال ومنافع الإيمان، كالاعتداد بالعبادات، ومنها طمأنينة النفس بالإيمان، التي تطيب بها الحياة، كما قال سبحانه وتعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)( )، وغير ذلك من أحكام الدنيا، كسلب المرتد أخوة الإسلام، فيصير بردته حلالَ الدم، حدُّه القتلُ بالاتفاق، إنْ لم يتبْ، وليس حدُّ الردةِ مِن الإكراه على الإسلام، الذي أخبر الله برفعه في قوله تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)( ) فذلك في الكافر الأصلي، فإنه لا يكره على الإسلام، أمّا مَن اختار الإسلامَ، فإنّ خروجَه منه بعد الدخول فيهِ، يعدُّ من تشويه الإسلامِ والتنفيرِ منه، فكأنه يقول: جربتُ هذا الدين ووجدته غير صالح، وأنّ غيره أصلح منه، وهو بذلك يعلن حربه على الدينِ، فلو لم توضع له عقوبة زاجرةٌ، لكان ذلك دافعًا لغيرهِ على فعله. (وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) ما تقدم هو عقوبة الدنيا، وفي الآخرة مَن ماتَ مرتدًّا ذهبَ كلُّ عمله، وكان بِردتِهِ خاًلدا في النار مخلدا أبد الآبدين. وجملة (وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ) معطوفة على جزاء الشرط (فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا) والمعطوف على الجزاء جزاءٌ، فالآية قد ذكرت شرطين: (يَرْتَدِدْ) و(يَمُتْ)، وجزائين: إحباط العمل والخلود في النار، فمن عدَّ مِن العلماء الشرطين شيئًا واحدًا - كالشافعي - وأن ثانيهما قيدٌ للأولِ، والجزاء كذلك جزاء واحدٌ، جزءٌ منه في عقوبة الدنيا، وجزء في الآخرةِ، قال إنّ الردة لا تحبطُ العملَ، إلّا بوجود القيدِ، وهو الموت على الكفرِ، فمن حجَّ مثلا وارتدَّ، ثم رجع إلى الإسلامِ، لا يبطلُ حجه الأولُ؛ لأنه لم يمتْ مرتدًّا، فجعلوا هذه الآيةَ مقيدةً للآيات الأخرى، التي أطلقتْ أن الردةَ تحبطُ العملَ، كما في قوله سبحانه وتعالى: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ)( )، وقوله جل جلاله: (وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ)( ). ومَن ذهب من العلماءِ إلى أنّ بالآيةِ شرطينِ: ردة وموتًا على الردة، وجزائين: إحباط العمل والخلود في النار - وهم الجمهور ومنهم المالكية - قال بتوزيع كلِّ شرط على جزائهِ، فالشرط الأولُ (الردة) شرطٌ مستقلٌّ، يترتب بمجرده جزاؤه، وهو إحباط العمل، فمَن حجَّ وارتد ثم رجع للإسلامِ، وجبَ عليه الحجُّ ثانيًا؛ لبطلان الأول بالردةِ وحدَها، وبناء على هذا أيضًا اختلاف العلماء فيمن ثبتت صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم وارتدَّ، ثم رجع للإسلام، كالأشعث بن قيس، وعيينة بن حصن، وعمرو بن معديكرب، هل يُعدون من الصحابة؟ لأن إحباط العمل شرطه الموت على الكفر، وهم لم يموتوا عليه، أو لا يعدّون من الصحابةِ؛ لأن ردتهم أحبطتْ عملهم بمجردِها. (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) الذين تحقق فيهم وصفُ الإيمان (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا) أُخرجوا من بلادهم، وفرُّوا بدينِهم، وتركوا ديارهم وأوطانهم مرضاةً لربهم، ويدخلُ فيهم المهاجرونَ من مكة إلى الحبشة، ومن مكة إلى المدينة، مِن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دخولًا أوليًّا، ويلحقُ بهم بدلالة العمومِ مَن تحققَ فيه وصفُهم، ممن أخرجوا من ديارهم مِن أجلِ دينِهم (وَجَاهَدُوا) الجهاد مصطلح إسلامي، وهو القتال لإعلاء كلمة الله، لا للحمية والعصبية، ولا للشجاعة والشهرة، ولا لغير ذلك من آفاتِ النفس، ولا أيضًا للغنيمة، إلّا أن تكون تبعًا (فِي سَبِيلِ اللهِ) (فِي) للتعليل، أي: القتال والجهاد لأجل سبيل الله، ولأجل إعلاء كلمة الله، سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) . (أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يرجون من الرجاءِ، وهو تأملُ الخير والطمعُ فيه، مع توقع حصوله، وفي تكرير الموصول (الّذينَ) مع الهجرة والجهاد - دون الاكتفاء بالعطف من غير إعادة الموصول - دلالة على عظيم شأن كل واحد منهما بانفراده، وأنّ كلَّ واحد منهما مستقلٌّ بإدخال أصحابه في الرجاء والطمع في رحمةِ الله وثوابه، وقد ازداد الوثوق بهذا الرجاء، بتذييل الآية بوصف الله تبارك وتعالى بواسع المغفرة والرحمة.

التبويبات الأساسية