المنتخب من صحيح التفسير -الحلقة 176- تابع سورة آل عمران

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

- الحلقة (176)

(لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ)[آل عمران:92].

(لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) البرّ بكسر الباء: الإحسانُ وكمالُ الخير، وبفتحِها هو المتصفُ بهذه الصفة مِن كمالِ الإحسان، ومنه (الْبَرُّ) مِن أسماءِ اللهِ تعالى وصفاته الحسنَى([1])، أي: لن تبلُغوا وتصِلُوا إلى حقيقة البرّ، الذي هو جماعُ كلّ خير وكماله؛ حتى تُنفِقُوا مِن بعضِ ما تحبّونَ مِن أموالكمْ.

والبِرّ الذي لا يتوصلُ إليهِ إلّا بإنفاقِ بعضِ ما تحبهُ النفسُ، هو رضوانُ الله ورحمتُهُ وجنانُهُ، و(مِمَّا تُحِبُّونَ) عام في الإنفاق والمواساة مِن كلّ ما يحبهُ المرء، وتطيب نفسهُ به، فيدخل فيه ما يبذلهُ المرُء من مالهِ وجاههِ ونصحهِ وإرشادِه، وتعليمِه الناسَ الخير، وإعطائهِ المشورةَ فيمَا يحسنُه مما يُحتاجُ إليه فيه، وكذلكَ خدمةُ بدنهِ في  قضايا الأمةِ، وعونِ الناسِ بقضاءِ حوائجهم، أو بالمشاركة فيما ينفعُهُم؛ بنصرةِ المظلومِ، والتنفيسِ عن المكروبِ، والمجاهدةِ في تثبيتِ الحقوق، وإغاثة الملهوفِ الفقير، والنازحِ المهجّر، والضعيفِ والمريضِ، وأعظمُ ذلك كلّه وأحبّه إلى اللهِ تعالى؛ بذل النفسِ في نصرةِ الدينِ وأهلهِ القائمينَ به، ومَن فاتَه هذا أو شيءٌ منه، وجدَهُ في حسنِ الخلقِ، ففي صحيح مسلمٍ مِن حديث النّواس بن سمعان، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ)([2])، وبذلُ شيء مما ذُكر، الذي يصلُ به المرءُ إلى غايتهِ في البر مشروطٌ بشرطينِ، الأول: إذا كان الذي يبذلُه محبّبًا إليهِ، تضنُّ به نفسه؛ لأنّ بذلَ المحبوبِ دون مقابلٍ علامةٌ على سخاءٍ وسماحةٍ صادقةٍ لوجهِ الله.

 والشرط الثاني، وهو شرطُ قَبولِ كلّ عمل: الاحتسابُ وإخلاصُ النية.

وبذلُ البرّ للرحم والقراباتِ أفضلُ من بذلهِ للأبعَدينَ، ففي صحيح  البخاري: لما نزلت: (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) قَامَ أَبُو طَلْحَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ اللهَ يَقُولُ: (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ([3])، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلهِ، أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللهِ، فَضَعْهَا حَيْثُ أَرَاكَ اللهُ، فَقَالَ: (بَخْ([4])، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ أَوْ رَايِحٌ([5]) - شَكَّ ابْنُ مَسْلَمَةَ - وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ) قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ، وَفِي بَنِي عَمِّهِ([6])،  وكان فيهم الفقير وصاحب المالِ، منهم حسانُ بن ثابت، وأُبيّ، وعبد الرحمن، فصدقةُ التطوعِ وصلة الرحم تعمُّ الفقير والغنيّ، وجاء زيدُ بن حارثة بفرسٍ كان يحبّها، فقال: هذه في سبيلِ الله، فحملَ عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامةَ بن زيدٍ، أي أعطاها لابنِ المتصدّق، فقال زيد: إنمَا أردتُ أن أتصدقَ بها، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنّ اللهَ قد قبِلَها منكَ)، وهذا نصّ في أن النفقةَ على الرحمِ والقرابة أكثر أجرًا؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم هو المبين لكتابِ اللهِ، وقد بين ما يوصلُ إلى البرّ الذي هو مرضاةُ الله.

 (وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) هذا تعميمٌ في الحثّ على الإنفاقِ بعد تخصيص، فكلّ إنفاقٍ صغيرًا كان أو كبيرًا فإن اللهَ به عليمٌ، ويتولى جزاءَه على قدرهِ([7])، وفي جواب الشرط (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) حثٌّ على إخفاءِ الصدقة، وأن المعوّل عليه فيها هو الإخلاصُ، فقد ينفقُ المقلُّ ما هو في المقدارِ قليلٌ، لكنه عندَ الله في الميزانِ عظيمٌ؛ لعلمهِ بصدقِ المنفقِ، كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ)([8])، وجزاءُ كلٍّ بحسبِ صدقهِ وموافقتهِ لأمرِ الشارعِ.

 

 

[1]) وأل في (البرّ) للجنس، ومِن في قوله: (مِمَّا تُحِبُّونَ) للتبعيض.

[2]) مسلم: 14.

[3]) بيرحاء: حديقة بها ماء عذب وشجر وثمر، كانت قبالة المسجد النبوي، والعرب تسمي الحدائق آبارا.

[4]) بخ: كلمة تقال عند الرضى والإعجاب بالشيء.

[5]) مال رائح: من الرواح، خلاف الغادي، فالمال غاد ورائح، أي ذاهب ومقبل، وهذا من المقبل.

[6]) البخاري: 2769.

[7]) فمَا في قوله: (وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ) شرطية، وشَيْءٍ نكرة، والنكرة في سياق الشرط كالنفي تعمّ، وتأكد العمومُ بدخول (مِنْ) على النكرة لإفادةِ الاستغراق.

[8]) التوبة: 79.

التبويبات الأساسية