بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (210)
(لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[آل عمران:186-188].
(لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ) الابتلاء: الاختبار والتمحيص بالشدائد والبلاء، الذي يصيب المؤمنين في سبيل الدين، ونصرة الحق، إخبار من الله أن هذا أمر مؤكد الحصول، أقسم الباري بلام القسم على وقوعه للمؤمنين، فلابد أن يعدُّوا أنفسهم لقبوله، ولن يكونوا جديرين بنصر الله الذي وعدهم إلا إذا كانوا ثابتين في مواجهته، والابتلاء في الأموال يكون بإنفاقها في سبيل الله، ويكون بنقصها بالكساد، وتسلط الظلمة عليها، ويكون بغير ذلك.
والابتلاء في الأنفس يكون لبذلها بالقتل والجراح، في الجهاد لإعلاء كلمة الله، وبما يصيبها من الأمراض، وتعريضها للهلاكِ بالقيام بالأمر والنهي، عند صولة الباطل وسلاطين الجور، وسماع الأذى من الكفرة والمشركين والظلمة مِن المسلمين، وهو الإيلام بالقول بالكذب والطعن والسب، وتلفيق التهم، والأراجيف والشائعات، والطعن في الشريعة والمعتقد والمنهج، والتهديد بالقتل، الذي ينال أشخاص القائمين على الحق، الناصرين له، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ووصف الأذى بالكثير في قوله (أذًى كثيرًا)؛ لأنه فوق الأذى المعتاد، المقدور على سماعه وتجاوزه عادة؛ لأن أصل الأذى هو الأمر الذي يضيق الإنسان بسماعه، ولكن الشأن أن يكون مقدورًا على تجاوزه والصبر عليه، كما قال تعالى: (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى)()، لكنه هنا كثيرٌ يثقل الكاهل، ويشقّ تحمله، وإن تصبروا على الأذى الكثير والابتلاء، وتثقوا بوعد الله بالنصر، على الثبات، فإن ذلك من عزم الأمور، وعزم الأمور: إنفاذها والمضي فيها، وعدم التردد فيما بانَ صوابه، ووضح طريقه؛ لأن الثبات عليه والمضي فيه مما عزمه الله، وأمرَ به وأوجبه، فإذا عزمت فتوكل على الله، وجواب (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا) محذوف، تقديره: إنْ تصبروا تنالوا منزلة أهل العزم، الذين ابتُلوا فصبروا، دلّ عليه: (فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ).
(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) الميثاق والعهد والقسم واليمين بمعنًى واحد، ولذا جاء في جوابه بلام القسم (لَتُبَيِّنُنَّهُ)، و(الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) اليهود، أو العلماء عامة، وعلى أنّ الخطابَ لأهل الكتاب، فالحكم يشمل مَن عمل عملهم في كتمان العلم أو تأويله بالباطل مِن علماء الأمة، قال ابن عباس رضي الله عنهما: “كلّ ما ذمَّ الله أهلَ الكتابِ عليه فالمسلمونَ محذرونَ مِن مثله”() (فَنَبَذُوهُ) النبذ: الطرح والإلقاء لغرض الإهمال والترك، فقوله (وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ) بيان لإعراضهم عنه؛ فإنّ مَن اهتم بشيء واعتنى به جعلهُ أمام وجهه ونصب عينيه، ومَن أهانهُ وأعرض عنه أدبر عنه وولاه ظهره (وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) أخذوا مقابل التلبيس والكتمان للحق ثمنًا بخسًا في صفقةٍ خاسرةٍ، أعطوا فيها أنفسَ ما عندهم مِن ميراث الأنبياء، وأخذوا عن سكوتهم عن الحق وتزيين الباطل والتمكين للظلمة مِن حكام الجور وأعداء الدين، أخذوا عن ذلك الرشى والسحت، والوعود بالمناصب والنفوذ، والمرتبات والأجور، فبذلوا النفيس، وأخذوا الحطام (فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) إذ سرعان ما يذهبُ عنهم ما أخذوه، ويخرجون صاغرين بأيدٍ فارغة، لا يقدرون على شيء مما أُعطوه من فتات الحكام وما فرحوا به، وتقدم الكلام على الكتمان في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى)() في البقرة.
(لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا) جاء في الصحيح أنها نزلت في المنافقين؛ كانوا يتخلفون عن الغزو بالمعاذير، فيقبل منهم النبي صلى الله عليه وسلم، ويحبون من الناس أن يُثنوا عليهم، ويحمدوهم بأنهم مع قعودهم عن الجهاد كانوا مع المجاهدين بنياتهم()، وجاء في الصحيح عن ابن عباس وجهٌ آخر في تفسير الآية: أن مروان بن الحكم دعاه، وخشي على نفسه من هذه الآية، وقال: لئن كان كلُّ مَن أحبَّ أن يُـحمد بما لم يفعل يعذبُ لنعذبَن أجمعون، فقال له ابن عباس: مالك ولهذه! إنما نزلت في اليهود، سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه، وأخبروه بغيره، وفرحوا بأنهم نالوا حمدَه بما أخبروه، ففرحوا بما لم يفعلوا، كما فرحوا أيضًا بتكذيبِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه لو كان رسولَ الله لعلِم كذبهم، فلما نزل الوحي بتحذيره منهم، انقلبَ فرحُهم غمًّا، فقرأ ابن عباس الآية: (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) على مروان()، ولا منافاة بين التفسيرين؛ فإنّ القرآن حمالُ وُجوه، يصلح لهؤلاء ولهؤلاء، ومَن فعل من المسلمين فعلهم يناله -كذلك- حظّ من وعيدهم، وعلى قراءة (تَحْسَبَنَّ) يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولكل من يتأتى منه غير معين() (بِمَا أَتَوْا) بما فعلوا، مِن أَتَى بمعنى فَعَلَ، ومنه قوله تعالى: (إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا)()، والمعنى: إن مَن ذكر مِن المنافقين واليهود ومَن فعل فعلهم من المسلمين (يُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا) بما فعلوا من نبذ الكتَاب وراءَ ظهورهم، وكتمان الحق، وعدم بيانه، بتحريفه وحمله على غير وجهه، بالتلبيس والتدليس لتزيين الباطل، لقاء عرضٍ من الدنيا، فيبيعون دينهم بثمن بخس مِن حطام الدنيا، وقوله (فلا تحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ) أي بفوز وفلاح ينجيهم من العذاب ويدخلهم الجنة()، وتطلق المفازة على البيداء، سميت مفازة وهي مَهلكة مِن باب التفاؤل، والكلام في قوله: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ) وإن كان سبب وروده في أهل الكتاب وفي المنافقين منهم ومن غيرهم كما تقدم، فحكمُه يعمُّ ويشمل كلّ مَن عمل عملهم، واتبع طريقهم المعوج في كتمان الحق، وتدليس الباطل بالتأويل الفاسد، إرضاء للعامة أو لجماعته، طمعًا في الدنيا والترؤس، يفرحون بما أعطوا من حطامها البالي، ويحبون أن يحمدَهم الناس عن تلبيسهم وتدليسهم، وسكوتهم عن المجاهرة بنصرة الدين وأهله، بدعوى التحلي بالحكمة والعقل، والنظر في العواقب، وأنهم يتوَخّونَ بتأويلاتهم المغشوشة التي تُناصر الباطل، وتنتهي بتغلب الظلمة على بلاد المسلمين، وطمس معالم الإسلام، وإبعاد تعاليمه وأحكامه عن الحياة، يفعلون ذلك كله بدعوى جلب المصالح ودفع المفاسد، والحفاظ على كيانِ الوطن، ويتغافلون عن أن تمكين مخطط العدو يدمر الدين، فيحبونَ أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فلا تحسبن هؤلاء بمنجاةٍ من العذاب، ولا بمكان بعيد منه (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) على تلبيسهم وسوءِ تدبيرهم.