بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (101).
(وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) [البقرة:190-193].
(وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ) كان هناك تدرج في نزول الآيات التي أذنت بقتال المشركين، ويظهر أن هذه الآيات كانت مِن أوائل ما نزل من آيات القتالِ، فقد أمرت بقتال المشركين بقيدين: كونه في سبيل الله؛ لأجل الدِّين وإعلاء كلمة الله، وكونه مقصورًا على من يقاتلُ منهم المسلمين، لا مَن لم يقاتلهم، فهو قتالُ دفعٍ للدفاعٍ عن النفس، لا قتال طلب غارات وغزو، وقوله: (الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ) أي: الذين يعدون العدة ويباشرون الأسباب لقتالكم، سواء في ذلك من يقاتل منهم بالفعل، ومن هو متهيء لقتال المسلمين يعملُ عليه، وذلك لإخراج غير المتهيئين للقتال؛ كالنساء والصبيان والشيوخ ونحوهم (وَلَا تَعْتَدُوا) نهيٌ عن بدء المسالمين مِن الكفار بالقتال، فلا يُعتدى عليهم، بل يمهلوا؛ لعلّهم يأتونَ راغبين في الإسلام، ونهيٌ كذلك عن تجاوز الحد في قتال المقاتلين منهم؛ كعدم مراعاة أحكام الحرب في قتالهم، وفي معاملة أسراهم، ونحو ذلك. (إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) تذييل يعمّ التحذير من العدوان، في قتال العدو وغيره؛ لأن الاعتداء كله ظلم، والله لا يحب الظالمين. (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) ثَقِف كفرِح، مصدره الثقف، وهو الحذق في معالجة الشيء وتناوله، لذا هو يتضمن معنى السيطرة والغلبة، والمعنى: اقتلوهم حيث لقيتموهم لقاء قهر وغلبة، وهذا أمر بقتل من يقاتِل من المشركين، حيثما كان، وأينما وجد، فقتل مَن يقاتِلَ ليس مقصورًا على وجودِه في جبهة القتالِ، على أرض المعركة، بل في أيّ مكان حلّ، وأينما وُجد، كأن يلوذَ بمكانٍ آخر يحتمي به، ويتوارى فيه، فهو لا يزالُ مطلوبًا، مأذونًا في قتلِه، مادام خرج يقاتِلُ، ولو لم يكن مباشرًا للقتل حينَ طلبه، فيلاحَق لأنه معتدٍ فارّ (وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) القتل لا يجتمعُ مع الإخراج، فالمعنى: اقتلوا البعضَ وهم مَن قاتلوكم، وأخرجوا بعضًا آخر من مكة كما أخرجوكُم، وقد فُعل ذلك بمَن لم يُسلم يومَ الفتحِ، فمنهم مَن قتِل، ومنهم مَن فرَّ هاربًا، فالجزاء من جنس العمل (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) الفتنة كلُّ ما يتعرض له المسلمون، وكذلك القائمون بالحق، مِن صنوف الأذى؛ من تخويف وتسلط وملاحقة وحبس وتعذيب، وإخراجٍ من الوطن، وتشويه، وتلفيق أكاذيب، واستهزاء بهم وبدينهم، وجرأة عليهم، ففي معنى هذه الآية قال الله للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: هذا الإذلال والترويع الذي أصابكم منهم، والشرك الذي هم عليه، يرفع عنكم الحرج في قتالهم، فهو أشد بلاء عليكم من القتل؛ لدوامه وتألم النفس به ألَمًا مستمرًّا، وقد قيلَ: أشدّ مِن الموتِ أن يتمنّى أحدٌ الموتَ، على حد قول المتنبي: كَفى بِكَ داءً أَن تَرى المَوتَ شافِيا وَحَسْبُ المَنَايَا أنْ يكُنّ أمانِيَا والإخراج من الوطن وحده مِن الفتن، التي قد يتمنى مَن أصابَه ذلُّها الموتَ، كما قال الشاعر: لَقتلٌ بِحَدِّ السَّيفِ أَهْونُ مَوقِعا عَلَى النفس مِن قَتْل بِحدّ فراقِ (وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) جعل الله المسجد الحرام مثابة للناس وأمنًا، لذلك حرمَ اللهُ القتال فيه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم عند دخوله مكة عام الفتح: (أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ)( )، وهذا الحكم بتأمين من حلَّ بالحرم ليس مطلقًا، بل يستثنى منه مَن قاتلَ المسلمين داخلَ الحرم، أو قَتل خارجَه ولاذَ به متحصِّنًا فيه فإنه يُقتل، حتى لا يتخذ الحرمُ ملاذًا للمجرمين ومأمنًا للعدو، يتحصن به لهزيمةِ جيشِ المسلمينَ، فلا يُقدر عليه، فإنّ الحرمَ لا يحمي قاتلًا ولا فارًّا بدمٍ، وقد أمرَ النبي صلى الله عليه وسلم بقتل ابن خطل وهو متعلقٌ بأستارِ الكعبةِ؛ لعداوته الشديدةِ، وسبّه المفرطِ لرسول الله صلى الله عليه وسلم (كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ) كذلك القتل والجزاء على العدوان، لمن بدأكم وقاتلكم من الكافرين، يكونُ الجزاء الذي يليقُ بهم. (فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فإن كفّوا عن قتالكم، والمحادّة لله ولرسوله، فالصفحُ أولَى، وليكن لكم نصيبٌ مما وصفَ اللهُ تعالى به نفسهُ، مِن المغفرة والرحمة والعفوِ، فإن الله غفور رحيم. (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ) حتى بمعنى إلى، أي: قاتلوهم قتالا يستمرّ إلى أن تنتهي فتنتُهم، أو (حتى) بمعنى كي التعليلية، أي: قاتلوهم لكي لا تكون فتنةٌ، والمعنى واحدٌ؛ لأنّ الوصولَ إلى الغايةِ المغياةِ بإلى، هو معنَى التعليلِ والحكمة مِن قتالِهم، و(فِتْنَةٌ) نكرة في سياق النفي، تعم كلّ فتنةٍ، على نحو ما تقدمَ في قوله: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ). وقد أمر المسلمون في قوله: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أمروا مرةً أخرَى بقتال الكافرين مطلقًا في جميع الأحوالِ والأوقات، بعدَما أُمِروا بقتالهم في جميع الأماكنِ في قوله: (حيثُ ثقفتُموهُم)، والغايةُ مِن قتالهم حتَّى لا تكونَ (فتنةٌ)، لا تبقى لهم على المسلمين ولا على دينهم هيمنةٌ أو استخفافٌ، ولا على أراضيهم تسلطٌ ولا احتلال (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلهِ) يكونُ العلوّ والغلبةُ لدينِ الله وأهلِه، وذلكَ لا يكون إلّا بقتالهم، أو دخولهم الإسلام، فلا يبقى في بلاد العربِ دينانِ، وقد كانَ ذلك، فقتل مَن قُتل منهم، وأسلمَ مَن أسلَمَ (فَإِنِ انْتَهَوْا) وكفُّوا عن فتنة المسلمينَ عن دينِهم، وعن إذلالهم والهيمنة عليهم وقهرهم، وسلب إرادتهم، وسلبِ حريتهم في اتخاذ قراراتهم داخل بلدانهم، كما هو حال المسلمين اليوم، والمعنى: قاتلوهم ما داموا على ذلك، فإن انتهوا وكفوا (فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) (عُدْوَانَ) مصدر، فعلُه عَدَا يعْدُو، بمعنى اعتدَى وظلَمَ، وجملة (فَلَا عُدْوَانَ) يمكن أن تكون قائمة مقام جواب الشرط المحذوفِ، وليستْ هي الجواب، ويمكن أن تكون هي الجواب، فعلى الأولِ يكونُ التقدير: فإن انتهوا وكفّوا، فلا تبدؤُوهم بقتال؛ لأنهم غير ظالمينَ، ولا عدوان إلا على الظالمين، وعلى الثاني يكونُ التقدير: فإن انتهوا وكفَّ البعضُ ولم يكفّ البعضُ الآخرُ، فلا عدوانَ حينئذٍ إلّا على الظالمينَ منهم، وهم مَن لم يكفّوا، وسمِّي جزاءُ الظالمين عدوانًا، وهو في الواقع قصاصٌ وعدلٌ، وليس بعدوانٍ، وذلك مِن بابِ المشاكلةِ والمشابهةِ في اللفظِ للمُجاورةِ، وقد تقدمَ الكلام عليها في قولِه تعالى: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ) في البقرة( ).