بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (70).
(يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة:122 – 124].
نداء آخر لبني إسرائيل، مماثل للنداءِ المتقدم، يذكرهم بالنعم، والقيام بها، والتخويف من تضييعِها، ويتَوَعّدهم بالقيامة وأهوالها، وما ذكر هناك يوضحُ ما هنا.
وتكرير هذه الآية في النداء لبني إسرائيل على نحو ما سبق، من التأكيدِ والمبالغةِ في النصح لهم، ومِن رد الصدر على الورد؛ للانتقالِ من الكلام عن بني إسرائيل ومحاجة أهل الكتاب، إلى فضائل نبي الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم ومنزلته، وبنائه للكعبة المشرفة، وحِجاج المشركين.
(وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ) أصلُ (ابتلى) اختبر، وابتلاء أحدٍ يعني التعرّف على حاله، والوقوفَ على ما يُجهل من أمرِه، ويعني أيضًا تكليفَه؛ لإظهار ما به مِن فضائل أو نقائص، والمراد هنا المعنى الثاني، وهو التكليف لإظهار الامتثال، لا التعرّف على حاله؛ لأنّ الله تعالى لا تخفى عليه خافية (بِكَلِمَاتٍ) جمع كلمة، وتطلقُ الكلمة على اللفظ الواحد المفرد، وعلى جملة من الكلام، وعلى خطبةٍ كاملةٍ، والمراد بالكلمات التي ابتلي بها إبراهيم صلى الله عليه وسلم أنواع من تكاليف الأحكام والسنن والآداب، اختصّ الله تعالى بها نبيهُ إبراهيم صلى الله عليه وسلم وكلفه بها؛ ليُهيأه للرسالة، وعلى رأسِها خصال الفطرة، ومنها أمرُه بذبحِ ابنِه، ومن المفسرين مَن ذكر أنها ثلاثون خصلة؛ عشر في سورة التوبة: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)([1])، وعشر في المؤمنون والمعارج: (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ)([2]) إلى آخر الآيات مع حذف المكرر، وعشر في الأحزاب: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)([3])، ولا دليل على تعيين ما ذهبوا إليه.
(فَأَتَمَّهُنَّ) وَفَّى بها، وأدَّاها على وجهِها، وقام بها خيرَ قيام، كما قال سبحانه وتعالى: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّىٰ)([4]).
(قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) الإمام مَن يؤتمُّ به، ويعهدُ إليه التقدمُ في القيامِ بأمرِ الشارع، بما في ذلك النبوّة، والقيام بالخلافة والقضاء، وإمامةِ الصلاةِ والإفتاءِ، والشهادةِ، ورواية الحديث، فكل ذلك إمامة؛ لأنه قال إمامًا، ولم يقل نبيًّا، وذلك ليشملَ كلّ مَن يقتدَى به من أصحابِ المناصبِ الشرعية، وقد اتفق أهل العلم على أنه لا تنعقد هذه المناصب الدينية لفاسقٍ؛ لأن شرط توليها العدالة، ولأنّ الله تعالى قال: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) وإذا تولاها متصفٌ بالعدالة ثم فسق، فقال قومٌ تُسلب ولايته، ولا تجبُ طاعتُه، واختاره بعضُ أهل العلم؛ لقوله تعالى: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)، وللمنافاة بين وصفَي الإمامة والظلم، فالجمع بينهما محالٌ، ابتداءً ودوامًا، وقال آخرون الدوامُ ليس كالابتداء، والمنافاة في الابتداءِ لا تقتضي المنافاة في البقاء؛ لأنّ الدفعَ أسهلُ من الرَّفع (قَالَ) إبراهيم عليه السلام (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) مِن للتبعيض، والتقدير: اجعلني إمامًا، واجعل من بعضِ ذرّيتي أئمة.
ويصح جعلُه معطوفًا على جاعلك، أي قال الله: إنّي جاعلك إمامًا، قال إبراهيم ملتَمِسًا: وجاعلٌ من ذريتي إمامًا، وسمّوهُ عطفَ التلقين، والأولى به في هذا المقام وشبهه أن يسمّى عطفَ الالتماس، وذلكَ عندما يضيفُ السامع إلى كلامِ المتكلم ما يتمنى أنْ يشملَه كلامُ المتكلم، كما لو قال أحدٌ: سأكرمُك، فتقول: وزيدًا، ومنه على وجهٍ: (قَالَ وَمَنْ كَفَرَ) عطفًا على (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ) ومن السنة قول جَرِير بن عَبدِ اللهِ البجلي رضي الله عنه: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فقُلْتُ: أُبَايِعُكَ عَلَى الْإِسلَامِ، فَشَرطَ عَلَيَّ: (وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ)([5])، وقول عبد الله بن الزُبير لأعرابيٍّ استجداه فلم يعطِه، فقالَ الأعرابيّ: "لعَن الله ناقةً حملتني إليك، قال ابن الزّبير: إنّ وراكِبَها"([6])، (عَهْدِي) العهدُ التكليفُ بالأمر، وهو فاعلُ ينالُ، والظالمينَ مفعولٌ، على القاعدةِ عندمَا يلي الفعلَ اسمُ ذاتٍ واسمُ معنى، يقدّمُ في الإسنادِ اسم المعنَى على الذاتِ.
وقول إبراهيم عليه السلام (ذُرِّيَتِي) دون (عقبي) تماشيًا مع فطرة الإسلام، التي لا تفرق بين أبناء الأبناءِ وأبناءِ البنات، خلافًا لمفهومِ الجاهلية، الذي يقولُ قائلها:
بَنُونَا بَنُو أَبْنَائِنَا وَبَنَاتُنَا |
بَنُوهَنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الْأَبَاعِدِ ([7]) |
والمخالف لِما وصّى به الإسلامُ، مِن الاستيصاءِ بالنساءِ خيرًا، وتكريمه للبناتِ وللأمهاتِ، والتبعيضُ في قوله: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) مِن التأدبِ في الدعاءِ، لعلمِه أنّ سننَ الله لم تجرِ بأن تكون الذرية المتعاقبة مِن نسل واحدٍ كلّها صالحةٌ، فلم يسألْ ربّه المستحيل.
وأجابه الله تبارك وتعالى بأن الإمامةَ لا تكونُ إلا للبررةِ الأتقياءِ الصالحين، وهو ما يتوافقُ مع أدبهِ صلى الله عليه وسلم في الدعاء، بذكرِ التبعيضِ، الدالّ على الاحتراس في الطلب لذريته، والدالّ على أنها تكليفٌ وعهد، لا يحقُّ أن يتولاها الظلمةُ، وأهلُ الفجور والفساد.
والاقتصارُ على وصفِ الفريقِ الذي لا يستحقُّ الإمامةَ - وهم الظلمة - دونَ وصفِ مَن يستحقُّها مِن الصالحين، من بابِ الاكتفاء؛ لأنهمَا ضدَّان، والحكمُ على أحدِ المتقابلينِ يثبتُ نقيضه للآخر، ولِأَنَّ التَّحذيرَ مِن المفاسدِ مقدمٌ على الترغيبِ في المصالحِ، ويلتحقُ بالإمامة في هذا الشرطِ، كلّ المناصب الشرعية، التي مرَّ ذكرها.
[1]) التوبة: 112.
[2]) المؤمنون: 2 - 5.
[3]) الأحزاب: 35.
[4]) النجم: 37.
[5]) البخاري: 58.
[6]) تاريخ دمشق لابن عساكر: 28/260.
[7]) نسب جماعة هذا البيت للفرزدق.