بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (279)
[سورة المائدة:6].
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قُمۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغۡسِلُواْ وُجُوهَكُمۡ وَأَيۡدِيَكُمۡ إِلَى ٱلۡمَرَافِقِ وَٱمۡسَحُواْ بِرُءُوسِكُمۡ وَأَرۡجُلَكُمۡ إِلَى ٱلۡكَعۡبَيۡنِ وَإِن كُنتُمۡ جُنُبٗا فَٱطَّهَّرُواْۚ وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَآءَ أَحَدٞ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَآئِطِ أَوۡ لَٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا فَٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَيۡدِيكُم مِّنۡهُۚ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجۡعَلَ عَلَيۡكُم مِّنۡ حَرَجٖ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمۡ وَلِيُتِمَّ نِعۡمَتَهُ عَلَيۡكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ (6)
هذه الآية تُسمّى آية التيمم، والتيمم شُرع في غزوة المريسيع في السنة السادسة، وقد جاء في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها: أن آية التيمم نزلتْ في غزوة المريسيع، عندما حبَسهم الْتِماسُ عِقدٍ لعائشةَ افتقدتْه، وهم على غير ماء، ولم يكنْ معهم ماء، فلمّا أصبحُوا على غير ماء نزلت آية التيمم([1])، وقد تقدمتِ القصةُ من حديث عائشة رضي الله عنها في آية النساء: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ)([2]).
وسبب نزولِ الآيةِ يدلُّ على أنّ التيمم لم يكن معروفًا قبلها، ولذلك بقي المسلمونَ في تلك الغزوةِ في حرجٍ، حين حبسُوا على غير ماء، ويترجح أن هذه الآية نزلتْ قبل آيةِ النساء، ولا يعكرُ عليه أنّ سورة المائدة كانت مِن أواخرِ القرآن نزولًا؛ لأنه لا يلزمُ منه أن تكونَ قد نزلتْ جملةً في وقتٍ واحدٍ، فقد تنزلُ السورة في وقتٍ تذكر به، وينزل بعضُها في وقتٍ آخر، وهذا معنى نزوله منجمًا، ويُرجِّحُ أن الذي نزل بالمريسيع هذه الآية – وليستْ آية النساء – ما خرجه البخاري، من حديث عمرو بن حريث عن عائشة، وفيه: أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ).
وظاهر قوله (فَٱغۡسِلُواْ وُجُوهَكُمۡ وَأَيۡدِيَكُمۡ إِلَى ٱلۡمَرَافِقِ) أن الوضوء مطلوبٌ بعد القيام إلى الصلاة، وهذا المعنى لا يقول به أحدٌ اتفاقًا، بل المعنى: اغسِلوا وجوهَكم عند إرادة القيامِ والعزم على الصلاة، وليس عند الاصطفافِ والوقوفِ للصلاة، وظاهرُ ترتب الأمر بالوضوءِ على القيام للصلاةِ ترتبَ الجزاءِ على الشرط، يدلُّ على وجوبِ الوضوء لكلّ صلاة، ولو لم يحصلْ ناقض، وأنه لا يصلَّى بالوضوء الواحدِ أكثر من صلاة، وهو غيرُ مراد إجماعًا، وقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (صَلَّى الصَّلَوَاتِ يَوْمَ الْفَتْحِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَقَدْ صَنَعْتَ الْيَوْمَ شَيْئًا لَمْ تَكُنْ تَصْنَعُهُ، قَالَ: عَمْدًا صَنَعْتُهُ يَا عُمَرُ)([3])، فكان قوله: (عمدًا صنعتُه) بيانًا للآية، يدلّ على جواز ما ذُكر، وقد جاء في آخر الآيةِ في قوله (فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا) بعد قوله (أَوۡ جَآءَ أَحَدٞ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَآئِطِ) ما يدلّ على أن وجوبَ التيمم عند الصلاة مقيدٌ بحصول الحدث، والتيمم بدلٌ عن الوضوء، فيكون الوضوء أيضًا مقيدًا بالحدث، وما ورد عن الخلفاءِ الراشدين من الوضوءِ لكل صلاة، هو مِن تجديدِ الوضوء المندوبِ إليه.
وقد ذكرتِ الآيةُ أركان الوضوء، وهي: غسلُ الوجه، واشتقاقُه من المواجهة، وحدُّه طولًا من منبتِ الشعر المعتادِ إلى أسفل الذَّقَن، وعرضًا من وتدِ الأذنِ إلى وتدِ الأذن، واليد في (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) يطلق على ما كان من رؤوس الأصابع إلى الكوع، ويطلق على ما يصل إلى المَرفِق، وعلى ما يصل إلى الإبط، وقد بين الله اليد المطلوب غسلها بقوله (إِلَى الْمَرَافِقِ) وحرف إلى للغاية، والغايةُ وردَ في القرآن دخولها في المغيَّـى، كما في قوله: (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ)([4])، فإنها بمعنى مع، ووردَ عدم دخولها، كما في قوله: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ)([5])، وجمهور أهل العلمِ على أنّ المرافقَ داخلةٌ، يجبُ غسلها؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في وصفِ وضوئهِ: (أنه كانَ إذا توضَّأَ أدارَ الماءَ على مِرْفَقَيْهِ)([6])، والباء في (بِرُءُوسِكُمْ) عند مَن يرى الاكتفاء بمسحِ بعض الرأسِ هي للتبعيض، ومَن أوجب مسحَ جميع الرأس – ومنهم المالكية – جعلوا الباء زائدةً للتأكيد؛ لأن الفعلَ يتعدّى بدونها، أو للإلصاق، وجعلُها للتأكيدِ أرجح، فهي كالباء في قوله (فَٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَيۡدِيكُم مِّنۡهُ) في التيمم، فإنها لا تصلحُ للتبعيض اتفاقًا (وَأَرْجُلَكُمْ) قرئتْ بالنصب عطفًا على المغسولِ، الوجه واليدين؛ فتفيدُ وجوبَ غسل الرجلين، وقرئتْ بالجر عطفًا على الرؤوس، التي فرضُها المسح، مع أن الرّجلينِ فرضُهما الغسل، واختلفوا فيما تُحمل عليه قراءةُ الجر، فهناك من قال هي منصوبةٌ، وجُرّت بالمجاورة، أي منصوبة بفتحةٍ مقدرة منع من ظهورها حركةُ المجاورة، كما في قوله تعالى: (عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ)([7])، فأليم مجرور، وهو نعتٌ لعذاب، وهو منصوب، وجرّه لمجاورة يوم، ومنه في العطف: (وَحُورٌ عِينٌ)([8])، على قراءة الجر، للمجاورة للحمِ طيرٍ قبلَه، مع أنه معطوف على (وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ)([9])، ومنه قولهم: جحرُ ضبٍّ خرِبٍ، وعليه فيكونُ حكمُ الرجلين الغسل، وفصِلَت عن المغسول لمراعاةِ ترتيب الأداء، وفائدة الجر على المجاورة التنبيهُ على عدم الإسراف في صبِّ الماء، بحيث يقربُ من المسح، ويمكنُ حمل قراءة الجر على المسحِ على الخفين، فقد انعقدَ الإجماعُ بعد عصر التابعين على أن الواجبَ في الرجلين الغسل لا المسح؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم هو المبينُ لكتاب الله، ولم ينقل عنه ولو مرةً أنه اكتفَى بالمسح عليهما، بل حذّر من عدم إيعابِهما بالغسل، وتوعدَ عليه بالنار، فعَن عَبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رضي الله عنهما، قَالَ: (تَخَلَّفَ عَنَّا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا، فَأَدْرَكَنَا – وَقَدْ أَرْهَقَتْنَا الصَّلاَةُ – وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ، فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا)([10])، ولم يخالفْ هذا الإجماعَ إلا الشيعةُ الإمامية، وتقدم الكلام في آية النساء على قوله: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ)، و(مِن) في قوله هنا (وَأَيۡدِيكُم مِّنۡهُ) للتبعيضِ، والضمير يعودُ على الصعيد، وآيةُ المائدة هذه استكملتِ الكلامَ على كلّ أنواع الطهارة وموجباتِها، فذكرتْ موجباتِ الطهارة الصغرى؛ الإحداث واللّمْس، وموجبات الطهارة الكبرى؛ الجنابة، وذكرت أنواع الطهارة الثلاثة؛ الوضوء والغسل والتيممَ البديلَ عنهما، عند عدم القدرةِ عليهما، وسميت آية المائدة آية التيمم، ولم تسمَّ آية الوضوء، مع أن الوضوء ذكرَ في أولها؛ لأن الوضوءَ كان معلومًا حكمُه قبلَها بالسنّة، فلم يعرفْ أنّ المسلمين صلُّوا منذ شرعتِ الصلاةُ ليلةَ المعراج في مكة قبلَ البعثة مِن غير وضوء، فالذي أضافته آيةُ المائدة، وعرفَ بها ولم يعرف قبلها، هو التيممُ وليس الوضوء، لذا سميتْ به.
والحرج في قوله (مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) الضيقُ والعنت، أي: إنّ الله لا يفعلُ بكم ما يدخلُكم في العَنت؛ لأنه إذا لم يجعلْ للمريض رخصةً في الصلاة بالتيمم، لكانَ المريض بين أحدِ أمرين؛ إمّا أن يستعملَ الماء فيهلكَ، وإما أن يتركَ الصلاة فيأثم، والله لا يريدُ للناس الحرجَ، قال تعالى: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)([11])، وقال: (مَّا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ)([12]) (وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) يطهركم طهارةً حسيةً بالماء، وطهارةً معنوية بتخليصِكم من الآثام، وتمكينكم من الدخول في الصلاة بالتيممِ عند فقدِ الماء، للمناجاةِ وتزكيةِ النفوس (وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي: تشريعُ الرخصةِ لرفعِ الحرجِ هو مِن تمام النعمة على المسلمين؛ لأجل أن يَشكرُوا اللهَ عليها.
[1]) البخاري: 334.
[2]) النساء: 43.
[3]) مسلم: 277.
[4]) هود: 52.
[5]) البقرة: 187.
[6]) الدارقطني: 1/83، والبيهقي: 259.
[7]) هود: 26.
[8]) الواقعة: 22.
[9]) الواقعة: 17.
[10]) البخاري: 60.
[11]) البقرة: 185.
[12]) النساء: 147.